من الواضح أنّ المأزق الفلسطيني العام بتعبيراته المختلفة السياسيّة والاقتصاديّة وتدهّور دور المنظومة السياسيّة، أسهم في بروز حركاتٍ شبابيّةٍ تعمل بأشكالٍ جديدةٍ من العمل السياسي[1] ضمن وجود تأثيرات البيئة السياسية من واقع التجزئة الاستعمارية، وتصاعد حدة ممارسات الاحتلال الإسرائيلي الدافعة إلى تقويض بُنى الحياة الوطنيّة للفلسطينيين ومقوّماتها على الصعيدين السياسي والاجتماعي. فضلًا عن أزمة المشروع الوطني، وانتهاج القوى السياسيّة الفلسطينيّة سياسة الاحتواء في علاقتها مع الأطر الشبابيّة، بدلًا من سياساتٍ تشاركيّةٍ مشفوعةٍ بمنهجٍ تواصليٍّ مع الشباب.
وبالرغم من أن هذا الانبثاق للحركات الشبابية استمر يتراوح بين الزخم والصعود تارة، والانخماد والتلاشي تارةً أخرى، غير أن محصلته النهائية لم تكن على مستوى المأمول. ومن الصحيح القول إن تعبيرات هذا المأزق العام تتضح في أوضاع وقضايا وتحديات تتباين وفق واقع كل مكوّنٍ من مكونات الشعب الفلسطيني داخل فلسطين التاريخية وخارجها.
وجديرٌ بالإشارة أنّ الحديث عن ظاهرة الشباب في المجتمع الفلسطيني جاء متزامنًا مع ما تمرّ به القضيّة الفلسطينيّة من تحوّلاتٍ عميقةٍ من حيث صعود اتّجاهاتٍ فكريّةٍ جديدةٍ تعيد قراءة الحالة الفلسطينية في سياقٍ ثقافيٍّ مغايرٍ لما هو سائد. في هذا السياق يجري الحديث بكثافةٍ ملحوظةٍ عن الشباب ودورهم في المجتمع، ومدى مساهمتهم في التغيير السياسي والاجتماعي، والرهانات المعوّلة عليهم في ظلّ إخفاقات الأطر التمثيليّة التقليديّة. في الوقت الذي تشهد القضيّة الوطنيّة الفلسطينيّة والشعب الفلسطيني تحدّيات تستدعي وقفةً نقديّةً شاملةً تأخذ بعين الاعتبار الواقع الذي يبدو لا يتوافق مع طموح الشعب الفلسطيني الوطني وحقوقه الإنسانيّة، سيّما عدم تطابق التضحيات الفلسطينيّة الهائلة في ميدان المواجهة مع الاحتلال مع المنجز السياسي.
في سياق ذلك، بدأ الوله بدور الشباب بفعاليتهم، حيث تعطى لهم قدرة على تشكيل أنفسهم، وعلى تغيير سبل حياتهم، أولوية أيديولوجية على العلاقة التي يتشكلون ضمنها ويتموضعون ويستمرون في إطارها. كما يجري تضخيم المهمة الوطنية المطلوبة إنجازها شبابيًّاً دون فحص علاقات القوة والمجالات المتاحة والممارسات الممكنة. وبالطبع دون تجاهل ضرورة روح التضحية التي تمنح الشعوب المضطهدة القدرة على معادلة اختلال موازين القوى مع الاحتلال. مع الأخذ بالحسبان احتساب الممكن والمتاح في إطار الواقع السياسي الفلسطيني، وفي اتجاه مثمر. بما يسهم بوجود مساحةٍ للعقل تتجاوز مجرد الانفعالات للنفاذ إلى اكتشاف ممكنات الواقع لتصويبها.
الشباب باعتبارهم علاقةً اجتماعيّةً سياسيّة:
الشباب ليسوا فئةً مغلقةً مكتفيةً بذاتها، بل علاقةٌ مفتوحة، ويكتمل بالدخول في علاقة تشاركية مع الأطراف الوطنية الأخرى. من خلال مبادرات وطنية حوارية تواصلية جامعة، تقوم بتطوير النضال الوطني وفتح حوار جامع مع كل مكونات الشعب الفلسطيني.
من هنا يحمّل الشباب على الإنجازية مبدأً للفعالية، لا تُرد إلى مفهوم الفردانية ولا تُحمّل على مفهوم الذاتية الضيقة، بل يستجيب هذا البديل لموضوع الشباب ليس لأنّهم مقولة أو فئة مستقلة تعمل بطريقةٍ مخصوصة، بل لأنّ هذا يعدّهم بمثابة فاعلين لمجرد أنهم ينجزون ويفعلون- من دون حيازة وعي ذاتي وأشكال تمثيل محصورة في ذاتيّة شبابيّة كفضاء مفاهيمي عقلاني خصوصي يسوغ الشباب مقولةً - وذلك في حقل تشاركي وعلائقي يتكامل مع الأطراف الأخرى، من خلال التواصل والانهماك في قضيةٍ وطنيةٍ يسهم الشباب في تكوين فعالية تطبعهم ممارسة وأطر تحررية. لا حاجة بنا هنا إلى التوسل بأفكار ومفاهيم الفردانيّة والوعي الذاتي التي تصور الشباب جوهرًا يعمل وفق مصالحه المخصوصة.
يعدّ هذا مكسبًا وطنيًّا وشبابيًّا. فهو يضمن مشاركة جميع الفئات المجتمعية في الشأن العام، كما أنه يحقق تقاربًا بين فئة الشباب من ناحية، والمكونات السياسية للشعب الفلسطيني من ناحيةٍ أخرى؛ إذ يخفّف حدة التوتّر، ويريح الشعب الفلسطيني من الدخول في مناكفاتٍ غير مجدية، كما يوفّر طاقة سياسيّة يدخرها في الصراع مع الاحتلال، وكل ذلك يعزّز من ملاءمته السياسيّة، ومن ثَمَّ استقطاب التأييد له.
من الهيمنة إلى المشاركة، أو ما بعد الهيمنة:
هيمن منطق سياساتي على العقلية الفلسطينيّة، يرى بأن السياسة هيمنة من سيطرة، وبسط السيادة والنفوذ والإشراف العام. تمثل الهيمنة آلية باعتبارها المبدأ المنظم للنظام الاجتماعي الوطني، أو المنظم للعلاقات بين السياسي والاجتماعي. منطق الهيمنة هذا يفسر مثلًا الكثير من الإجراءات المنفردة التي تقوم بها المنظمة والسلطة أو الفصائل. على سبيل المثال تفسر لنا التحول في الانتفاضة الكبرى عام 1987 من الثورة إلى السلطة، وكذلك صراعات السلطة والفصائل، ويفسر لنا الانقسام بين الضفة و غزة وتعثر المصالحة، والآن يعيش النظام السياسي الفلسطيني صراعًا هيمنيًّا بين السلطة في الضفة والسلطة الحاكمة (حماس) في غزة، وكلا الطرفين داخل في حروب هيمنة، ومن ثَمَّ فإن الهيمنة ضد المشاركة السياسية، وجوهرها يقوم على الإقصاء، والانفراد بالحكم والشأن العام.
يقوم هذا على سياسات ما بعد الهيمنة، أي الخروج من نمط الحكم الواحد إلى إشراك الكثرة في الحكم والعمل السياسي. إن ما يشهده الحقل الفلسطيني من انقسامٍ بين الضفة وغزة، وعدم قدرة الأطراف من الحكم منفردًا، فضلًا عن وجود مشكلاتٍ سياسيّةٍ واجتماعيّةٍ واقتصاديّةٍ تفوق قدرة طرف واحد على معالجتها، بالإضافة إلى المأزق الوطني العام، واختلال العلاقة بين القانون والأزمات الاقتصادية والسياسية والتدخلات الخارجية، الإقليمية والدولية، كل ذلك ينذر بأن زمن الهيمنة قد ولى. إنّ أفول زمن الهيمنة يعني العودة إلى صفوف الجماهير، وإقامة شراكةٍ سياسيّةٍ مع الكلّ الوطني، أما إعادة إنتاج منطق الهيمنة لن يكون إلا بتقسيم جغرافية غزة والضفة من أجل إعادة انتاج الهيمنة، تهيمن حركة حماس على قطاع غزة، وحركة فتح والسلطة على الضفة، أما أن تؤدّي دور السلطة المهيمنة والمقاومة في الوقت نفسه، تحكم وتمارس الهيمنة، يبدو خيارًا بدا بعض الوقت ممكنًا، فإنّه لن يكون لديه قدرة على الاستمراريّة.
يحقّق هذا انخراط الشباب الفاعل باعتبارهم مواطنين في عمليات تطوير البرامج والسياسات واتخاذ القرارات واحتلال مواقع قيادية مرموقة على مستوى المؤسسات الرسمية وغير الرسمية، وفق فلسفة المشاركة التي تحتاج دومًا إلى تخطيطٍ وتشجيعٍ وتوجيهٍ وتطويرٍ من القوى الوطنيّة كافة، وتزداد مشاركة الشباب قوةً وتصبح أكثر استدامة إذا ما انخرطوا أنفسهم بطريقة منظمة ومستمرة في العمل العام.
إنّ تعزيز مشاركة الشباب بحسب هذا تقوم على قاعدتين: التمكين والحقوق، أي بناء القدرات وإتاحة فرص استخدامها في توسيع خيارات البشر، وهو ما يتطلب تأمين بيئاتٍ قانونيّةٍ ومجتمعيّةٍ ملائمة، عبر عمليات الإصلاح الشامل، وتطوير مناهج التعليم، واعتماد أساليب تربوية حديثة في التنشئة الاجتماعية تقوم على الحوار والإقناع والاعتراف بالشباب مواطنين جديرين بالأهلية المدنية وبالحس بالمسؤولية المجتمعية، من خلال رفع وعيهم السياسي وزيادة نسبة تمثيلهم في الهيئات والمؤسسات السياسية الاجتماعية وتأكيد حقهم في التنظيم والتعبير عن الرأي والدفاع عنه، بما يحقق تفعيل دور الشباب في التنظيمات السياسية؛ عبر تشجيع هذه التنظيمات على إعادة بناء هياكلها التنظيمية وتطوير برامجها السياسية بما ينسجم مع دورٍ فاعلٍ ونشطٍ للشباب داخل أطرها، بتعزيز الديمقراطية الداخلية واعتماد الانتخابات آليةً لاختيار القيادات، واستعادة دور الأحزاب قنواتٍ للتنشئة السياسية والتعلم على القيادة.
كل ما سبق مرهونٌ بمدى جدية التدخلات المطلوبة، وهي على النحو التالي:
المؤسّسات الأهلية: التوعية، استيعاب طاقات الشباب وتنمية قدراتهم وتشجيعهم على الاندماج المجتمعي والمشاركة (مشاريع تشغيل، العمل الطوعي، مبادرات شبابية، أنشطة ترفيه إبداعي). تشجيع البرامج والمشاريع التنموية المساندة لحقوق الشباب والمعززة لها، العمل بروح الفريق، محاربة البطالة، مشاركة الشباب في عمليات التخطيط والتنفيذ والمتابعة للأنشطة والمشاريع والبرامج كافة، وتشجيع الشباب للانخراط بفاعليةٍ في الأطر النقابية والاتحادية والطلابية وتعزيز دورها داخل هذه الأطر.
التنظيمات السياسيّة: نبذ العنف السياسي، تشجيع المشاركة السياسية، التوقف عن الاقتتال والصراعات، محاربة التعصب وتنمية ملكات التفكير الإبداعي، التشجيع على تحمل المسؤولية، التعبئة السياسية والاجتماعية الإيجابية، التوعية، تنمية الحس بالمواطنة الفاعلة، تعزيز آليات التواصل مع الجمهور وبناء الثقة، الدفاع عن المصالح وتبني القضايا والاحتياجات القطاعية والاجتماعية، وهذا لن يتأتى دون إعادة صياغة المشروع الوطني وإعادة العلاقة بين الحزب ومشروعه لتتحول التعبئة من الانتماء للحزب وتقديس قياداته إلى التنظير لمشروعٍ سياسيٍّ برؤيةٍ شاملةٍ للحقل السياسي والاجتماعي
الشباب: البحث عن بدائل تكيف إيجابي، بناء القدرات وتنمية المواهب ورفع الوعي، العمل الجماعي المنظم والمشاركة النشطة، الاستثمار الأمثل في الموارد المتاحة، التمسك بقيم المواطنة المدنية وتعزيز الانتماء الوطني، اكتساب المعرفة، التعرف على المشكلات التي تواجه المجتمع الفلسطيني، والانخراط الفاعل في الأطر المنظمة وإعادة تفعيلها بما يضمن عودة القدرة على الفعل والتأثير للقطاعات الاجتماعية المختلفة، وأيضًا الانخراط الواعي في الأحزاب السياسية ورفض التعصب والانجرار وراء العنف، وإظهار الإحساس بالمسؤولية الوطنية.
[1].جميل هلال (تحرير) : الحركاتالشبابيةالفلسطينية،المركزالفلسطينيلأبحاثالسياسياتوالدراساتالاستراتيجية،رامالله، 2013،ص79.