الأسرى: انتصار آخر، وماذا بعد؟

حجم الخط
للأسرى الفلسطينيين ونضالهم، وبالتالي لكل من يساندهم وطنياً وقومياً، ويتضامن معهم دولياً، (رسمياً وشعبياً)، قضايا مركبة بمطالب، (حقوق)، مختلفة ليس لترابطها أن يُنسي عن تنوعها، أو أن يخلط أولويات ترتيبها، ذلك أن هذا وذاك لن يحصد بالنتيجة سوى اختزالها، سيان بوعي أو من دونه، بشكل مباشر أو غير مباشر. فلهؤلاء الأسرى أولاً وقبل أيِّ شيء آخر مطلب، (حق)، نيلِ الحرية بفك قيدهم، وهو مطلب، وإن ارتبط تحققه التام والكامل بنيل شعبهم لحريته واستقلاله، إلا أن هذا الاستخلاص الذي لا ريب في صحته يجب ألا يؤخذ كمسلمة تحول دون ضرورة العمل بكل الوسائل والسبل لتحرير مَن أمكن منهم، والقدامى وذوي الأحكام العالية بخاصة، بعدما بات السبيل إلى ذلك معروفاً وممكناً بدليل تحرير الكثير منهم من خلال عشرات صفقات تبادل الأسرى. ولهم ثانياً، (بعد المطلب الأول)، مطلب (حق)، الاعتراف بهم أسرى حرية أو أسرى حرب، إذ صحيح أن هذا المطلب، (الحق)، دونه خرط القتاد، بسبب اصطدامه مع قاعدة قامت عليها سياسة حكومات إسرائيل ترى أن ليس ثمة للأسرى الفلسطينيين حقوقاً، بل احتياجات معيشية، تمنحها أو تسحبها أو تقلصها وقتما وكيفما تشاء، باعتبار أنهم مجرد مجموعة من "المخربين" أو "الإرهابيين"، إلا أن هذا يجب ألا يحبط، بل يجب أن يستنفر، تبني سياسة وطنية فلسطينية رسمية وشعبية مبادِرة ومثابرة ومبرمجة ودائمة تستهدف خلْقَ دعمٍ سياسي رسمي وشعبي، عربي ودولي، وتسعى لانتزاع قرار دولي يقضي باعتبار الأسرى الفلسطينيين أسرى حرية أو أسرى حرب لهم حقوق نصت عليها بنود القانون الدولي والإنساني، فيما يشكل انتهاكها حدَّ التغييب جريمة موصوفة بحق الإنسانية تستوجب تقديم مقترفيها للمحاكمة أمام محكمة الجنايات الدولية، بينما يعتبر التغاضي عن هذه الانتهاكات أو التواطؤ معها أو التغطية عليها، فما بالك برعايتها ودعمها، انتهاكاً لميثاق الأمم المتحدة، أساس القانون الدولي الحافظ لسيادة الدول واستقلالها وحقوق الإنسان فيها. ولهم ثالثاً، (بعد الحقَّيْن السياسيين السابقين)، حق مطلبي في التخفيف من معاناتهم بتحسين شروط معيشتهم القاسية، وهو المطلب الذي لم يتقاعسوا يوماً عن خوض المعارك لانتزاعه، وهاهم مرة أخرى ينتزعون بسلاح أمعائهم الخاوية نصراً آخر على هذا الصعيد رغم أنف حكومة إسرائيلية استسهلت بفائض تطرفها وعنصريتها، بل وفاشيتها، تصعيد إجراءات استباحة كرامتهم الوطنية والإنسانية وسحْبِ مكتسباتٍ انتزعوها بنضال بطولي مديد وتضحيات جسيمة غالية، ناسية أو متناسية، أن تصعيدها هذا، وبهذا المستوى من العنجهية، كان ينطوي بالضرورة على انفجار مرجل غضبهم، وعلى دفْعِهم لتجاوز عوامل فرقتهم الطارئة والعبثية، وحثهم لخوْضِ معركة جديدة مِن معارك اعتادوا خوْضَ غمارها، وتجشّمَ مشقاتها، وتقديمَ التضحيات اللازمة لتحقيق النصر فيها، معارك طالت مسيرتها، وتعددت أشكالها وتنوعت، وإن شكَّلَ الإضراب الجزئي والمفتوح عن الطعام، شكلها الناظم والأرقى، بوصفه الشكل الأكثر نجاعة وقدرة على انتزاع الإنجازات كما دلت تجربتهم النضالية المديدة على مدار عقود، ذاقوا خلالها ما لا يحصى من صور معاناة إنسانية قلَّ نظيرها، لكنها قط لم تثلم نصل إرادتهم الصلبة أو انتمائهم الوطني الراسخ، بل، وشكَّلت حافزاً دائما لرد الصاع وتسطير بطولة وطنية وإنسانية جماعية فريدة ونادرة، هي باستطالة أمدها، وبجسامة تضحياتها، بالملحمة الأسطورية أشبه، وإلى الأمثولة أقرب، بطولة سطروها بالسلمي من أشكال النضال، وباستنفار ما لديهم من عوامل القوة المعنوية، لثلم نصل ما لدى عدوهم من عوامل القوة الفيزيائية، وللتفوق عليه أخلاقياً وإنسانياً، ولانتزاع انجازات تقلص مساحة سيادته، بوصفه سجاناً، يسعى دوماً، وباطراد، إلى نفي ولوي عنق النزوع التلقائي للحرية لدى السجين المناضل والإنسان، ولا غرابة، إنها قواعد لعبة الصراع ذاتها على مدار 63 عاماً بين الفلسطيني والإسرائيلي، للأول قضية وحقوق مغتصبة، انبرى لاستردادها، وللثاني جنون جلادٍ احترف اغتصاب حقوق "أغياره" وإنكارها، ببدعة أن الفلسطينيين ليسو شعباً له قضية وأرض ورواية وتطلعات وحقوق وطنية وتاريخية مغتصبة، بل، مجرد "مجموعات سكانية غير يهودية، تعيش على أرض دولة إسرائيل وفي كنفها وتحت سيادتها"، ولها احتياجات حياتية يكفي لتلبيتها قيام "سلطة إدارة ذاتية" لشؤونها، إن هي انضبطت ولم تمارس "الإرهاب"، ومن هذا الأصل الفكري والسياسي الصهيوني في التعامل مع الشعب العربي الفلسطيني، جرى استلال فرع التعامل مع أسرى حرية هذا الشعب ووصمهم بـ"المخربين" أو "الإرهابيين" الذين لا حقوق لهم، بل احتياجات معيشية تُمْنَحُ وتُسحب وتُقلص تبعاً لـ"حُسن السلوك"، وبمقدار الكف عن ممارسة "التخريب" و"الإرهاب". هنا يثور سؤال كبير موجع وحارق: ما هي أسباب عدم كسر هذه القاعدة الإسرائيلية في التعامل مع الأسرى الفلسطينيين، رغم ملحمية، بل، أسطورية، ما خاضوا من نضال بطولي، لم يكن إضرابهم الأخير عن الطعام، وما حققوه عبره من نصر، سوى حلقة من حلقاته؟ يحيل السؤال إلى: 1: أن ما حظيت به سياسة إسرائيل التنكيلية المبرمجة بحق هؤلاء الأسرى من تواطؤ وتغطية، بل، ومن رعاية ودعم، على يد دولٍ عظمى باغية، أولاها الولايات المتحدة، ما هو إلا تجلياً آخر من تجليات إبقاء إسرائيل دولة فوق القانون، وإبقاء مجرمي الحرب فيها، سياسيين وعسكريين وأمنيين، بمنأى عن طائلة المحاسبة والعقاب والمحاكمة على ما اقترفوا، ولا يزالون، من جرائم بحق هؤلاء الأسرى، لم يكن استشهاد 187 منهم، عدا إعدام 50 آخرين ميدانيا فور اعتقالهم، سوى أغلى ضحايا هذه الجرائم. 2: أن ثمة تقصيراً سياسياً رسمياً، وطنياً فلسطينياً وقومياً عربياً، فيما يخص مطلب، (حق)، اعتبار هؤلاء الأسرى أسرى حرية أو أسرى حرب لهم حقوق يكفلها القانون الدولي ويوجب المحاسبة على انتهاكها، حيث ظل ما بُذل على هذا الصعيد موسمياً وغير مبرمج، وإلى ردِّ الفعل أقرب، ولا يتم إلا ارتباطا بانتفاضات الأسرى التي يجب ألا تكون سوى محطات لتصعيد نضال سياسي وقانوني دائم ومتصل ومثابر ومبادر باتجاه انتزاع السياسي من مطالب، (حقوق)، الأسرى الفلسطينيين. هنا يكمن سر عدم تمخض معركة إضراب الأسرى الأخير، فضلاً عن عشرات المعارك البطولية التي خاضوا على مدار عقود، عن إنجازات على صعيد السياسي من الحقوق، واقتصار النجاح فيها على انجازات مطلبية هي على أهميتها، تبقى قابلة للسحب والتقليص، ما يستدعي ألا يفضي إنهاء إضرابهم الأخير إلى التوقف عن شن حملة سياسية ومجتمعية وطنية فلسطينية متصلة، تحفز الرأي العام العربي والدولي، وتحركه، تحت شعار ناظم: الأسرى الفلسطينيون ليسوا "مخربين" وليسوا "إرهابيين" وليسوا مجرد مجموعة بشرية لها احتياجات معيشية توهب وتُسحب، بل هم مناضلو حرية وأسرى حرب يتوجب إطلاق سراحهم، وحتى يكون ذلك، فإن لهم حقوقاً تكفلها نصوص القانون الدولي المطلوب إلزام إسرائيل بقواعده ومحدداته ونصوصه، خاصة في ظل مرحلة عربية مفعمة بالحراك الشعبي، وبالحديث عن حقوق الإنسان، وعن عدم جواز انتهاكها، بل، وعن استعمالها ذريعة للتدخلات الأجنبية، بما فيها العسكرية، ضد من ينتهكها، حتى لو تطلب الأمر تدمير دولٍ وتحويلها إلى دول فاشلة.