لم يبقَ من أوسلو سوى الدور الوظيفيّ للسلطة والتنسيق الأمني

حجم الخط

     شهد الربعُ الأخيرُ من القرن الماضي انحسارًا ملموسًا لدور حركة التحرر العربي بعد وفاة الرئيس المصري جمال عبد الناصر، وتمكين الجناح اليميني برئاسة أنور السادات من الاستئثار بالسلطة، وتصفية الجناح الناصري بمساندة الإمبرياليّة والصهيونيّة، تحوّلت مصر من أهم قلاع حركة التحرّر العالمي إلى إحدى قلاع الإمبرياليّة في منطقة الشرق الأوسط، بدءًا من التنكّر لحلفاء مصر بإخراج الخبراء السوفييت، وانتهاءً بزيارة أنور السادات إلى القدس وتوقيع اتفاقية "كامب ديفد" في أيلول 1978، وإخراج مصر من الصراع العربي – الصهيوني وإحداث اختلال خطير بموازين القوى في المنطقة. انتقلت مصر بثقلها السياسي والوطني والقومي إلى موقع العداء لحركة التحرر العربي.  

      شكلت اتفاقية أوسلو انعطافًا خطيرًا في تاريخ الحركة الوطنية الفلسطينية، حيث أقدمت قيادة منظمة التحرير على سلسلة من التنازلات للعدو الصهيوني مجانًا، أبرزها الاعتراف بشرعية الكيان الصهيوني على أرض فلسطين مقابل الاعتراف بمنظمة التحرير الفلسطينية مفاوضًا على أراض متنازع عليها في الضفة الغربية وقطاع غزة، وصولًا لحكم ذاتي للسكان بلا سيادةٍ وطنية على الأراضي التي قسمتها الاتفاقية إلى أ، ب، ج، وليس الاعتراف بحق الشعب الفلسطيني في إقامة دولته الوطنية وفقًا لقرارات الشرعيّة الدوليّة. 

    تذرع قادة أوسلو بخطوتهم المشينة بالتغيّرات الدوليّة والإقليميّة؛ بتفكك الاتحاد السوفياتي، وتوقف دول الخليج عن تقديم الدعم لمنظّمة التحرير بسبب موقف قيادتها بدعم الرئيس العراقي صدام حسين، رغم أن هذه الذرائع لا تبرر الدخول بالنفق المظلم؛ فالقيادة الفلسطينية قدمت تنازلات مجانية مبكرًا في خريف عام 1988؛ حيث أعلنت في جنيف عن نبذ الكفاح المسلح بوصفه "إرهابًا"، واعترافها بقراري مجلس الأمن 242 و 338، وهي تنازلات مقدمة للإدارة الأمريكية لقبول التفاوض معها، بدلًا من الاستفادة من المناخ السياسي الذي أحدثته الانتفاضة الفلسطينية، التي شملت المدن والقرى والمخيّمات الفلسطينية كافة، التي اندلعت في كانون الأول 1987، ولم تتوقف نهائيًّا إلا بعد توقيع اتفاقية أوسلو في 13 أيلول عام 1993.

    اعترف ياسر عرفات ، في رسالته الموجهة إلى اسحق رابين في 9 أيلول 1993، بحق "إسرائيل" في الوجود بأمن وسلام، وتعهد بنبذ "الإرهاب" ووعد بإلغاء بنود "الميثاق الوطني الفلسطيني" التي تتناقض مع الاعتراف بوجود "إسرائيل"، وهو ما تحقّق فعلًا في اجتماع المجلس الوطني الفلسطيني المنعقد في مدينة غزة، في المقابل لم يعترف اسحق رابين في رسالته الموجهة إلى ياسر عرفات بأي حقوقٍ وطنيّةٍ فلسطينيّة.

      خشية قيادة أوسلو من انتقال مركز الثقل الفلسطيني إلى الداخل، وتشكّل قيادات فلسطينية تتمتع بتأييد شعبي؛ مع اندلاع الانتفاضة الفلسطينية في كانون الأوّل 1987، ما يهدّد استئثارها بقيادة الحركة الوطنية الفلسطينية، خاصة بعد تشكل الوفد الفلسطيني لمؤتمر مدريد، إضافةً إلى حساباتٍ أخرى تتعلّق في احتمال عودة الحكم الأردني إلى الضفة الغربية، خاصةً أن الفريق الفلسطيني الذي ترأسه الدكتور حيدر عبد الشافي في مؤتمر مدريد كان ضمن الوفد المشترك الأردني- الفلسطيني.

   حظيت قيادة أوسلو بتأييد من النظام العربي الذي كان ينتظر قرارًا فلسطينيًّا من هذا القبيل لإقامة علاقات مع العدو الصهيوني، فقد وقع الأردن على جدول الأعمال المشترك مع "إسرائيل" في 14 أيلول 1993 في اليوم الثاني لتوقيع اتفاقية أوسلو، الذي شكّل مسودة لمعاهدة وادي عربة بتشجيع من الرئيس الأميركي بيل كلنتون مقابل إلغاء الدين الأميركي على الأردن والبالغ (700) مليون دولار آنذاك و(72) مليون جنيه استرليني لبريطانيا، وفي 26 تشرين الأول 1994، تم التوقيع على معاهدة وادي عربة.

     حولت اتفاقية أوسلو فريق من المقاومين إلى جهاز بيروقراطي للسلطة، ومن قوة شعبية مكافحة ضد الاحتلال، إلى جمهور من الموظفين المدنيين والعسكريين يلهثون وراء رواتبهم المحرومين منها أحيانًا، بسبب الحصار، كما سخّرت بعض الطاقات الفلسطينية جهازًا قمعيًّا للمقاومة، وتحملت السلطة أعباء الاحتلال نيابة عن العدو من خلال "التقاسم الوظيفي"، الذي حول الأراضي العربية المحتلة إلى جزر متقطعه الأوصال.

     لم يبق من اتفاقية أوسلو سوى القيود التي فرضها العدو الصهيوني على الشعب الفلسطيني منذ توقيع الاتفاقية "التنسيق الأمني المذل، واتفاقية باريس التي شكّلت عبئًا على الاقتصاد الفلسطيني، وتحميل السلطة الفلسطينية عبء الاحتلال نيابةً عن المحتلين وفقًا للقانون الدولي". لقد ابتلع الكيان الصهيوني معظم أراضي الضفة الغربية، في ظل اتفاقية أوسلو، وأقام جدار الفصل العنصري، واستغل الاتفاقية غطاءً لإلغاء المقاطعة العربية، وإقامة علاقات رسمية بين عدد من الدول العربية مع الكيان الصهيوني.

      جاء القرار الأميركي المشين بالموافقة على فرض السيادة "الإسرائيلية" على معظم أراضي الضفة الغربية بالتزامن مع سياسات التطبيع وانفتاح النظام العربي على العدو الصهيوني، وفي ظل تشتت الموقف الفلسطيني واللهاث وراء اتفاقيات الذل والعار.  

    دأبت الجهات الرسمية في الأردن على فرض أشكال التطبيع القسري غير المباشر، بسبب رفض الشعب الأردني لسياسة التطبيع، وذلك من خلال اتفاقيات مع العدو لتمرير سياسات تحتاج إلى التصدي السياسي والشعبي المنظم لإحباطه، ففد بلغ مجموع التبادل التجاري بين الأردن والكيان الصهيوني خلال السنوات العشر 2010- 2019، نحو 926 مليون دينار منه (532 مليون دينار قيمة الصادرات الأردنية)، و(394 مليون دينار قيمة المستوردات) نحو متوسط سنوي للتبادل التجاري 92 مليون دينار، والمتتبع للتفاصيل، يلحظ أن هناك تراجعًا ملموسًا في التبادل التجاري لغاية عام 2019، قبل أن يطرأ ارتفاع على المستوردات عام 2020، ليبلغ 314 مليون دينار مع البدء بتنفيذ صفقة الغاز، مقابل 45 مليون دينار صادرات، وقفزت المستوردات عام 2021 إلى453 مليون دينار، وحافظت الصادرات على مستواها نحو 45 مليون دينار.  فقد كشف تراجع التبادل التجاري أنّ جزءًا مهمًّا من التطبيع مع العدو الصهيوني قسري تفرضه الجهات الرسمية، وينفذه رأس المال الذي لا ينتمي للوطن، في حين تعبر هذه المعطيات عن الحس الوطني للشعب الأردني في مقاطعة البضائع الصهيونية.

    غني عن القول إن المقاطعة الاقتصادية، تعدّ أحد الأشكال النضالية، التي تستهدف إضعاف قوات الاحتلال، فهذا الشكل من المقاومة يتيح الفرصة أمام فئاتٍ واسعةٍ من أبناء شعبنا الأردني، والشعوب العربيّة والشعوب المحبّة للسلام عامة، المشاركة في التصدّي للمعتدين، ويعيد الاعتبار لثقافة المقاومة في مواجهة نهج الاستسلام والتفريط.

     لم يتوقف التطبيع الرسمي مع العدو عند استيراد الغاز، حيث خرجت علينا الجهات الرسمية باتفاقٍ غريبٍ ليس له أي فوائد اقتصاديّة سوى التطبيع مع العدو، بما يعرف بصفقة الكهرباء مقابل الماء، حيث ستقيم شركة إماراتية بإنشاء مزرعة ضخمة للطاقة الشمسية لتوليد الكهرباء في الأردن لصالح العدو، في المقابل سيتم بناء محطة تحلية مخصصة للأردن على ساحل البحر الأبيض في المناطق المحتلة. من المفارقات الغريبة أن نشتري الغاز من العدو لإنتاج الكهرباء بتكلفة سياسية ومادية مرتفعة، ونبيع العدو كهرباء من الطاقة المتجددة بتكلفة منخفضة، ونقيم محطة تحلية مياه رهينة عند العدو؟!

  أما الاتفاق الأخير الذي أعلنت عنه الولايات المتحدة، سيمتد الممر المقترح عبر بحر العرب من الهند إلى الإمارات العربية المتحدة، ثم يعبر السعودية والأردن و"إسرائيل" قبل أن يصل إلى أوروبا، فالمشروع لا يشكل صفقة استثمارية، بقدر ما هو إعطاء دور محوري اقتصادي للكيان الصهيوني في الإقليم، تأتي الإجراءات الإمبريالية – الصهيونية في ظل تواطؤ الرجعية العربية، وضعف الموقف الفلسطيني الذي لم يرق لمستوى التحديات، وردود أفعال دولية باهتة. فالهرولة نحو التطبيع تعد مكافأة للعدو على تهويد الأراضي العربية، والإجراءات التصفوية للقضية الفلسطينية، التي تشكّلُ خطرًا حقيقيًّا على مستقبل الأمة العربيّة، فتتولى دولة الإمارات إنشاء المشاريع الاستراتيجية الكبرى مع العدو الصهيوني، ليس لاحتياجاتها الخاصة وحسب، بل وتمارس دور السمسار للعدو الصهيوني، وتقام الصلاة التلمودية في العاصمة المغربية احتفالًا بالتوقيع بين المغرب والعدو الصهيوني على اتفاقٍ غير مسبوق "التعاون الأمني بمختلف أشكاله"، بذريعة مواجهة التهديدات والتحديات. كما انضم السودان إلى مسلسل الخزي والعار، بأوامر من ممثلي الاحتكارات الرأسمالية، وأُعلن في كلٍّ من الخرطوم وتل أبيب وواشنطن عن اتفاقٍ لإقامة علاقاتٍ سياسيّةٍ بين السودان والعدو الصهيوني. أنظمة غير شرعية منحت الشرعية لعدو اغتصب الأراضي الفلسطينية ومارس أبشع أنواع القهر والاضهاد والتشريد للشعب العربي الفلسطيني، مقابل ضمان أميركي في الحفاظ على سلطاتها. 

     تأتي هرولة النظام العربي نحو التطبيع في الوقت الذي يواصل العدو الصهيوني بتشجيع من الولايات المتحدة الأميركية خطته الإجرامية في الإستيلاء على غور الأردن وضم المستوطنات المنتشرة في الضفة الغربية للكيان الصهيوني، بمصادرة الأراضي الفلسطينية وتهويدها، وتهديده للشعب الفلسطيني بالهجرة القسرية، والتوجه نحو إقامة حاجز بشري صهيوني على طول الحدود مع الأردن، ضاربين عرض الحائط المواثيق والقوانين الدولية. فالسياسة العدوانية الإمبريالية - الصهيونية تستهدف الشعبين الشقيقين الأردني والفلسطيني، كما تستهدف الأراضي الأردنية والفلسطينية. إن خطر التمدد الصهيوني أصبح يشكل تهديدًا وجوديًّا للشعبين الشقيقين وللأمن القومي العربي، ما يدفعنا إلى دق ناقوس الخطر، حيث بدأ العدو الصهيوني إجراءات الضم لأراضي الضفة الغربية. 

     إنّ الصراع العربي – الصهيوني صراع مركزي. وإن النضال من أجل التحرير والعودة وتقرير المصير حق مشروع يستدعي الدعم والمساندة من الشعوب العربية، كما أن نضال الشعبين الشقيقين الأردني والفلسطيني، في مواجهة أطماع الكيان الصهيوني في الأردن وفلسطين، يتطلب تعزيز التلاحم النضالي للشعبين الشقيقين الأردني والفلسطيني والتقدم بمبادرة مشتركة في استنهاض دور حركة التحرر العربي، مستفيدين من التحولات الدولية نحو انعطافةٍ تاريخية؛ تتميز بتصاعد الدور الصيني- الروسي، ومنظومة بريكس عامة، وتراجع الأحادية القطبية الأميركية وإقامة نظام دولي متعدد الأقطاب.