عاد البحر الى عينيه ثانية‎

حجم الخط
بعد ان بلغ المخيم ، قطع شوارعه الخلفية والممرات المحيطة ، منكساً رأسه مثل راية مهزومة ، كأنه يبحث عن شيء ما بين تضاريس نفسه وفي الاتربة العالقة على جبينه. يحدق بإتجاه واحد نحو الأسفل ، حدقاته تتسمر في موضع هبوط حذائه ، لا يطيق أن يدير رقبته نحو الركام ، ولا الى بركسات الحديد رغم أنه ينحشر فيها ، يضج من رائحة أللحم البشري المكدس داخها ، ولكنه يكره رؤية فراغ مكان يحمله الى لحظة من الوحشة المميتة ، كيف له ان يحتمل مشهد تراجيدي لبقايا البيوت المكومة كجثث محترقة ، كم مرة اغمض عينيه كي لا يرى البحر وحيداً، يهرب من بكائيات الحنين ، لم يعد لها رائحة حصى البحر ، كان يمزج خليطاً من خبزٍ ورمل وأعشاب بحرية ، طعام للاسماك التي تتربص بها أقفاص مصيدته وأشرطتها الحديدية ، يسمي خلطته العجيبة تلك بالخنتريش ، حتى صار لقب الرجل نفسه " خنتريش" قال يومها عن نفسه انه خليط وطُعم مغرٍ لأسماك البر. لون الشفق أرجواني ، خجل الشمس مع دمعات البحر ، خليط من حنين وصبر ، من ذكريات وانتظار ، من ملح ورمل ، من ازرق ودم . ما الذي فات " خنتريش" كي تغادر سحنته بريقها البحري ، حين يسرق أحد ما فصلا من فصول السنة ، وجهة الغروب من الجهات الأربعة ، ويستقيم ميزان الجغرافيا في خريطة ناقصة ومفترضة . لون الشوق أرجوني كذلك ! كان يحاكي نفسه يحاول أقناعها : لقد صار لي بيت ! وهائنذا أرجع ثانية ، لكن الى رصيف قريميدي عصري، ينظر الى الشرفة المطلة على الشاطيء ولكن من الأسفل ، قالها بغبطة وغصة ( أول مرة نمت عليه بلا هز) لم يجد هناك أي سبب لدخول المنزل في الليلة الأولى ، كم كان يخشى الليلة الأولى ، صدمة المكان الخالي من سطوة الحنين والصارخ بفخامة الذكريات . نام بعمق مع خليط جميل لزفراته المكبوته وهي تعانق أنفاس البحر. خنتريش يخترق صمته الذي سكنه منذ ان أضحى بلا بيت ، يعيش نازحا في كراج للسيارات ثم يجد مأوى مؤقت في براكسات الحديد ، استلم البيت المرقم في الرزمة الجديدة ، نام قبالة البحر ، على رصيف خال من معالم حارة الدامون، على طريق يختلط فيه همس الشاطيء بدردشات متمردة للشيخ صالح شعبان، وتمتزج عبق الليل برائحة خبز طازج لفرن علي الصاوي خليط من" خنتريشيات " بمواد نادرة فقدت وجودها . وبقيت هنا ترفرف بقايا صدى لصرخة صالح أبو عيشة الاخيرة ، يوم وقف بوجه الأخوة الاعداء يرفض الشقاق في بيت وتمزيق الطريق ، قالها "باطل" وتوقف قلبه ورحل . لو عرف الخنتريش سر ذاك التناص بين ما كتبه جان جينيه الذي جزم بأن " الطريق أجمل من البيت" ومحمود درويش بأن "البيت أجمل من الطريق " . قال له صاحبه البيت هو الوطن والطريق هو المخيم . مهما صار جميلا هذا المخيم لكنه ليس أجمل من الوطن .كم تحب البحر يا عزيزي لكنك لا تستطيع ان تعيش فيه هو طريقك المالح الى ميناء البرتقال ، هو المؤقت على درب الأبدي. كما قال المثل : (ثوب العرا ما بدفي وإن دفا ما بدوم ) وهو يرنو بنظرته نحو البحر، جاره القديم والكبير و الأمين على أسراره ، عاد إليه ليبادله أطراف الحديث ، يشكو له همومه ، ويخاطبه لساعات وهو يعجن بيديه طبق الختريش . في الحي الأخر، التي غاب عنها البحر عمداً، يوم زار صاحبه الذي لم يفتح النافذة البحرية أبقاها مغلقة على مدار سنوات الدمار، المقابل لمنزله المصدّع الذي اعاد ترميمه ، حتى أنه قرر ان يلغيها من الحائط ليستبدلها بأخرى معاكسة تطل الى الجهة الشرقية . نافذة تعاكس البحر ، لكنها تشق الروح ، جعلته يكتشف كيف تولد خيوط الشمس من مسامات الصباح ، ثم تفر مسرعة نحو وسادة البحر، كي تنسج ثوبا فضيا لستائر الحلم المحفوف بالحذر الشديد . للمرة الاولى أرتعش لحضور "مديح الظل العالي " مسته كلمات محمود درويش بالعمق مثل خط توتر كهربائي " في مكان الانفجار... أينما وَلَّيْتَ وجهكَ... كلُّ شيء قابلٌ للانفجارِ....الآن بحرْ....كُلُّهُ بحر...... وَمَنْ لا بَر لَه..... لا بحر له .... البحـر صورتنا ." لم يكن ندرك أن عصافير طربة كأطفال الحارات ، وهي تضع بيضها في ثقوب الرصاص على جدران مخيم ، أعشاش على صورتها ، تعرف انه مخيما لمن لا وطن له . وهي تحتفل راقصة على أغصان شجرة الزيتون ، كأنه تطلق الوصية بزقزقتها : العبرة ليست في المكان الذي انت فيه ولكنها في المكان الذي تصبو إليه ، ستعثر على الميناء لأنك لم تفقد البحر ، فلا تجعله يغادر عينيك ثانية ، حيث هناك ما زال ينتظر النورس الابيض ويرقد الأفق . ------------ عضو المكتب السياسي للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، مسئولها في لبنان، ومسئول ملف إعمار نهر البارد