الحركة النسوية والدراسات النسوية

بدأت الموجة الثانية من الحركة النسوية في أواسط الستينات، حيث أعقبت في الولايات المتحدة حركة الحقوق ا
حجم الخط
بدأت الموجة الثانية من الحركة النسوية في أواسط الستينات، حيث أعقبت في الولايات المتحدة حركة الحقوق المدنية والتي امتدت على مدار عقدين تقريبًا (خمسينات وستينيات القرن العشرين). وقد عانت الناشطات من ازدواجية المعايير لدى الناشطين داخل حركة الحقوق المدنية، حيث أظهر الناشطون من أصول أوربية درجة عالية من التقدمية، وساندوا بشدة المساواة في الحقوق للأمريكين من أصل أفريقي، ولكنهم احتلوا داخل صفوف الحركة المواقع الأمامية وأصروا على تهميش النساء بها، وإسناد الأدوار الثانوية لهن. مما دعا النساء للتذمر والاعتراض الذي تحول - حين لم يلقَ آذانا صاغية - إلى حركة جارفة لانتزاع المساواة في الحقوق للنساء. ولعل أهم إنجازات الحركة النسائية هو إنشاء تخصصات لـ "الدراسات النسائية" في الكليات والجامعات على طول المعمورة وعرضها. فمنذ أوائل السبعينيات خصصت بعض الجامعات في الغرب مقاعد دراسية في العلوم الاجتماعية للدراسات النسوية، وذلك بعدما ضغطت الحركة النسوية بهذا الاتجاه بسبب تركز الدراسات الإنسانية على الذكور، وتمحورها حولهم. حيث كانت الدراسات تركز على الرجال وتلحق المرأة - إضافة أو استدراكًا - من قبيل الذوق واللياقة، فيقال مثلا: تتجه المؤشرات إلى ترجيح كفة هذا المُرشح، حيث قال 105 رجل وامرأة ممن شملهم الاستطلاع أنهم سيصوتون لصالحه. وفي هذا المثال قد يكون عدد المستطلع آراؤهن من النساء حفنة قليلة لا تتجاوز العشرة، ومع ذلك تؤخذ العينة على أنها ممثلة لصوت المرأة. ومثال آخر، تنتج شركة أدوية عقار لعلاج أمراض القلب، وتسوقه على أنه فعّال حيث قامت بتجربته على الرجال ولكنه يباع لعلاج الرجال والنساء معا، وقد بات معلومًا أن فسيولوجية الرجال والنساء مختلفتان ووجدت فروق حقيقية بينهما عندما جرب الدواء عليهما كمجموعتين متمايزتين. كما أن تجارب الرجال والنساء الاجتماعية مختلفة: فالعيش في المجتمعات البطريركية ينتج تجارب متباينة لكل من النساء والرجال. وعملت الدراسات النسائية، والتي كانت الذراع الفكري للحركة النسوية، على رصد التجارب المختلفة للنساء في واقع الحياة. فدرست النسويات الأكاديميات مختلف مناحي الحياة الاجتماعية من الإعلام، والسياسة، والاقتصاد، ومجال الأعمال، واللغة، والدين، والحروب، والنشاط الجنسي، وغيرها الكثير من منظور المرأة. وعقدن المؤتمرات والندوات، وأنتجن الأفلام الوثائقية والدرامية، وأصدرن المجلات الأكاديمية، والكتب، والدراسات التي توثق لتجارب النساء، وكيف تخبرن التجربة الإنسانية بشكل يختلف جذريًا عن الرجال. وكانت لإصداراتهن تلك أكبر الأثر في إثراء التجربة الفكرية للإنسان منذ آلاف السنين، كما كان لها كبير الأثر على واقع الحياة اليومية للنساء في شتى أصقاع الأرض. فقد فرضت تلك الدراسات نفسها على صانعي القرارات (من الذكور) والذين دأبوا على تهميش النساء فيما يتخذونه من قرارات تمس بالضرورة المجتمع البشري كله رجاله ونساءه. فالمنظور النقدي الذي أفرزته الدراسات النسوية غير وجه العالم تمثل - من بين ما تمثل - في نشاطات الأمم المتحدة التي أقامت عدة مؤتمرات للمرأة لطرح الأجندة النسائية على طاولة المناقشات الأممية، وفي البرنامج الإنمائي للمرأة بالأمم المتحدة الذي يعمل على دعم تمكين المرأة، وفي الاتفاقيات الدولية التي تحث على عدم التمييز ضد المرأة. وهكذا تطورت الدراسات النسائية التي بدأت على استحياء، لترصد تجارب النساء من خلفيات عرقية، أو طبقية، أو جنسية مختلفة. فما تخبره امرأة من أصول عرقية مهمشة غير ما تخبره نساء الطبقة الوسطى من أصول عرقية سائدة في مجتمع ما. وانشطرت الحركة النسوية، وتشعبت لتصبح "نسويات" متعددة وليست "نسوية" واحدة، أو ما بات يعرف بـ "ما بعد النسوية" ولم يضعف هذا من الحركة النسوية كما قد يعتقد القارئ، بل عززها. فتحتفي النسوية المعاصرة (ما بعد النسوية) بالتعددية والاختلاف، وترفض أن يكون لها تعريف واحد دقيق، فيقال بأن هناك مفاهيم للنسوية بعدد ما هنالك من نساء، فهي لا ترغب أن ينفرد فصيل واحد منها بتحديد الحقيقة أو تعريفها. فالحقيقة ملك للجميع. ولذا فإنهن يتحدثن الآن على "حقيقتي أو "الحقيقة الخاصة بي" فلقد عاشت النساء لقرون طوال ترزح تحت حقائق فرضها عليهن المجتمع البطريركي، وآن الأوان أن يعرفن حقائقهن الخاصة.