المنطقة والتدخلات الإسرائيلية

حجم الخط
منذ تمَّ زرْعها، بتواطؤ دولي ودعم استعماري، عام 1948 في فلسطين، وعلى حساب شعبها وحقوقه الوطنية والتاريخية، شكلت إسرائيل، ولا تزال، تهديداً إستراتيجياً لكلِّ تطلُّعٍ تحرري عربي قومي أو وطني، سيان رسمياً كان أو شعبياً. وهذا ما تجلى في تدخلاتها ضد أي تغيرات عربية داخلية تؤثر في ميزان قوى الصراع معها، عبر شن الحروب تارة، وخلقِ الفتن السياسية وتغذيتها تارة أخرى، ناهيك عما قامت به من احتلال مباشر لأراضٍ عربية متاخمة لفلسطين عام 1967. ويكفي التذكير بـ:مشاركة إسرائيل في التصدي للتغيير الوطني والقومي بعد الثورة المصرية عام 1952، عبر انضمامها إلى جانب بريطانيا وفرنسا في العدوان الثلاثي على مصر عام 1956. قيامها بالتصدي لتطلعِ العراق إلى امتلاك الطاقة النووية السلمية، عبر مهاجمة ما أنشأه من مفاعل نووي، وتدميره، عام 1981. إقدامها على تدمير منشأة سورية في دير الزور، بدعوى أنها مفاعل نووي عام 2007. تصديها لنهوض القوة العراقية، عبر المشاركة المستورة في ما يكابده منذ 2003 من احتلال أمريكي، قاد إلى تدميره كدولة ودور، وليس كنظام فقط. دخولها، (الذي لم يعد سراً)، على خط تقسيم السودان وتمزيق وحدته. تدخلاتها العسكرية والسياسية التي لم تنقطع في كل ما شهده لبنان من تغيرات وطنية داخلية.   وأكثر، فإنه، ولأجل زيادة التحكم بالتغيرات العربية الداخلية، فقد انتهج قادة إسرائيل، بدعم غربي، إستراتيجية "التحالف مع الغلاف العربي"، (والتسمية لبن غوريون)، ما قاد إلى توسيع دائرة الوظيفة التخريبية لإسرائيل، لتشمل بتدخلاتها أي تغيرات وطنية وقومية ديمقراطية في الدول غير العربية في منطقة الشرق الأوسط وأفريقيا، بل، وفي دول أمريكا اللاتينية أيضاً. ويكفي التذكير بـ:عداء إسرائيل الثابت لأي تغيرات وطنية وقومية ديمقراطية داخلية في إيران وتركيا، الدولتين الشرق أوسطيتين المحوريتين، عبر ما نسجته مع نظاميهما من تحالف سياسي وعسكري وأمني إستراتيجي، وذلك منذ نشأتها عام 1948، وحتى إطاحة نظام الشاه في إيران عام 1979، وحصول التزعزع النسبي في تحالفها مع تركيا في السنوات الأخيرة. المساعدات السياسية والعسكرية والأمنية المعروفة، التي قدمتها، ولا تزال، لأنظمة الاستبداد والانقلابات العسكرية في مواجهة ثورات شعبية في دول أفريقية وأمريكية لاتينية. هذا ناهيك عن الدور المحوري الذي لعبته في تفكيك نظام الاتحاد السوفييتي، وما تلعبه من دور تخريبي في العديد من جمهورياته السابقة، وخاصة تلك المتاخمة لمنطقة الشرق الأوسط.   وتتضاعف مخاطر تدخلات إسرائيل في التغيرات الداخلية للمنطقة العربية وغلافها الإقليمي، بفعل كونها تدخلات دائمة، وذلك ارتباطاً بحقيقتين:الأولى: حقيقة أن هذه التدخلات ليست كأي تدخلات تقوم بها هذه الدولة الطبيعية أو تلك تجاه محيطها، لهذا السبب الطارئ أو ذاك، وتنتهي بانتهائه، بل، هي تدخلات مستمرة، بحسبان ارتباطها بالطبيعة العدوانية التوسعية الثابتة لإسرائيل، التي نشأت ككيان اغتصب فلسطين، وفُرِض على محيطها العربي والإقليمي، فيما ما زال قادته يرفضون التسويات السياسية للصراع، بل، ويؤججون ناره بالمزيد من الحروب والاعتداءات.الثانية: حقيقة أن تدخلات إسرائيل في المنطقة العربية وغلافها الإقليمي ترتبط بمشاريع دول الاستعمار الغربي في هذه المنطقة. وهي أيضاً مشاريع ثابتة في جوهرها، وإن تغيرت أشكالها، ذلك ارتباطاً بما لموقع المنطقة العربية وغلافها الإقليمي من أهمية إستراتيجية، وبما لثرواتها من غنى وتنوع، ما أكسب السيطرة عليها أهمية إستراتيجية في حسبة السيطرة على العالم والتحكُّم بمصيره، سواء في عهد الإمبراطوريات، أو في عهد الدول العظمى، وآخرها الولايات المتحدة، التي ورثت، منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، قيادة دول الاستعمار الغربي عن بريطانيا، التي قادت مع فرنسا تقسيم الوطن العربي إلى عدة دول وفقاً لاتفاقيتي: سايكس بيكو، (1916)، وسان ريمو، (1920)، وقررت منح اليهود "وطن قومي" في فلسطين، وفقاً لوعد بلفور، (1917)، الذي جرى تضمينه في صك الانتداب، بمصادقة عصبة الأمم.   ومعروف أن ذلك التقسيم لم يأخذ في الحسبان لا العوامل الاقتصادية ولا الجغرافية ولا الثقافية للوطن العربي، وأن كل ما أخذه كان تقاسم النفوذ بين الدول المنتصرة في الحرب العالمية الأولى، وخاصة بريطانيا وفرنسا، الدولتين العظميين آنذاك. وللحفاظ على هذا النفوذ وحمايته، وعلى تفوُّق إسرائيل، ككيان غاصب ارتبط به، نشأة ومساراً ومآلاً، على ما عداها من دول المنطقة وقواها، كان لزاماً دخول إسرائيل على خط أي تغيرات عربية داخلية ذات انعكاسات إستراتيجية على ميزان القوى والنفوذ في المنطقة العربية وغلافها الإقليمي.   إزاء هذه الحقائق عن تدخلات إسرائيل الثابتة، فضلا عن دول الاستعمار الغربي، في أي تغيرات وطنية وقومية عربية تحررية داخلية، يثور السؤال: كيف يكون السبيل الأنجع للرد عليها؟؟ هل يكون بالفصل بين الوطني والديمقراطي من الاستحقاقات والمهام، على طريقة الشعار التبريري: "لا صوت يعلو على صوت المعركة"، أم بالدمج بينهما، بحسبان أن الديمقراطي الداخلي، سياسياً واجتماعياً، يعزز مجابهة الوطني مع الأعداء، ويزيدها منعة؟؟   لقد كان من شأن الدمج بين الوطني والديمقراطي أن يحمي العراق والسودان والصومال وليبيا من المصير الذي آلت إليه كدول ودور، وليس كأنظمة فقط. واليوم أخشى ما نخشاه، أن يتدحرج الوضع في سوريا الدولة والدور، التي تقف على حافة جرف خطير لم تشهده من قبل، إلى ذات المصير، وبفعل ذات السبب، أي الفصل بين الوطني والديمقراطي، لا من قِبل النظام فقط، بل، أيضاً، ومن قِبل بعض أطراف المعارضة المندفعة نحو الاستعانة بالأجنبي، إذ بمعزل عن النوايا، التي يقود أحياناً حتى الطيب منها إلى بلاط جهنم، فإن النتيجة واحدة. هذا ما يوحي به لنا عقلنا، فيما عاطفتنا تتقد بالقول: عمار يا سوريا.