"الإخوان" إجابة خاطئة لسؤال صحيح

حجم الخط
قبل عامين تقريباً أطلق "شباب" مصر، (ضمن حدث عربي أشمل)، حراكاً شعبياً في مجتمع سياسي عانى عقوداً من القمع والتجريف، ويعوزه تنظيم سياسي ثوري جاهز لقيادة هذا الحراك، وتطويره من انتفاضة شعبية تحمل، ("بالقوة")، آفاقاً ثورية، إلى ثورة بـ"الفعل"، سياسياً واجتماعياً واقتصادياً. لهذا كان من المنطقي أن يتحول هذا الحدث الثوري إلى صراع مفتوح بين صانعه الفعلي و"الإخوان"، القوة المنظمة القادرة على تجييره لمصلحتها في المدى المنظور. وهذا ما حصل بالفعل، حيث دخل "الإخوان" مع "الجيش" في تحالف اضطراري مؤقت شابته مناوشات محسوبة ومخططة، بينما ظلت القوة الثالثة، (القوى الوطنية و"الشباب")، تعاني فرقة أطرافها، وضعف تنظيمها، بل، وتأخرت أكثر من اللازم في توحيد صفوفها على أساس ما بينها من قواسم مشتركة، وما أكثرها، ما أتاح لـ"الإخوان توظيف المطالبة بإنهاء "سلطة العسكر" لمصلحتهم، مع وعود نفتها الممارسة، بعدم فرْضِ "سلطتهم الدينية". لم تلتقط القوة الثالثة، في الوقت المناسب، وبما يكفي من حزم، معاني سلوك "الإخوان" على الأرض، سواء لناحية سيطرة التيار "الصقري" الأيديولوجي داخلهم، أو لناحية تقاربهم مع "السلفيين"، أو لناحية مساوماتهم مع الجيش، أو لناحية تعميق علاقتهم بإمارة قطر، ومغازلتهم لبقية بلدان الخليج، وللسعودية بالذات، أو لناحية توطيد علاقتهم بالولايات المتحدة، وتهدئة العلاقة مع ربيبتها، إسرائيل. ظلت القوى الوطنية الداعمة لصانع الانتفاضة الفعلي، (الشباب)، على هذا النحو من الارتباك والتشتت، لكن مناورة تمرير مشروع دستور غير توافقي بـ"إعلان دستوري" نصَّب الرئيس المصري "حاكماً بأمره"، قطعت الشك باليقين، وأفضت، بعكس ما أراد "الإخوان"، إلى تشكيل "جبهة الإنقاذ الوطني" التي خاضت، (تحت شعار "للثورة شعب يحميها")، أولى معاركها الفعلية مع "الإخوان" وظهيرهم "السلفي". على أية حال، انتهت معركة الاستفتاء على الدستور، إنما دون أن تتوقف تداعياتها، بل، وثمة ما يكفي من الدلالات على أن نجاح "الإخوان" في تمرير مشروع الدستور، قد أسس لإنتاج "حفار قبر" سلطتهم، ولتنامي الوعي الشعبي بأنهم إجابة خاطئة عن سؤال صحيح ومعقد. ولعل أهم هذه الدلالات: أولاً: دلالة أن تكون نسبة الاقتراع على مشروع الدستور أقل نسبة اقتراع تشهدها مصر بعد انتفاضة 25 يناير، حيث قاطع الاستفتاء، (وفقاً لإعلان "الإخوان" أنفسهم)، 68% ممن يحق لهم الاقتراع، بينما 64% من الذين شاركوا قالوا نعم، أي أن 20% فقط ممن يحق لهم الاقتراع،(51 مليون ويزيد)، وافقوا على مشروع الدستور. هذا ناهيك عن أن ثمة جزءاً مهماً ممن وافقوا، إنما وافق أملاً بالاستقرار الموعود، وليس دعماً لـ"الإخوان"، بينما الذين قالوا لا لمشروع الدستور، إنما قالوها رفضاً لـ"الإخوان"، وقناعة بأن هذا الدستور "الإخواني" لن يقود إلى الاستقرار. ومن الجدير بالملاحظة أن جلَّ المؤيدين كانوا من الريف، بينما الرافضون من المدن، وخاصة العاصمة التي صوتت بنسبة الثلثين بلا. ومن نافل القول أن المقاطعين هم أقرب إلى القائلين بلا. ثانياً: دلالة تناقض الإدعاء بقدرة مناورة تمرير الدستور على جلب الاستقرار مع ما قاد إليه من صراع فعلي آخذ بالتفاقم، ما سيضع "الإخوان" على المحك أمام قطاعات شعبية عريضة أوهموها بجلب استقرار لن يتحقق، وليس أمام "جبهة الإنقاذ الوطني"، كتعبير سياسي عن مصالح هذه القطاعات، فقط. أما لماذا؟ *في مادته الأولى يساوي الدستور، بصياغة ملتبسة، الهوية العربية للدولة المصرية بامتداداتها الإسلامية والإفريقية والمتوسطية. وفي هذا توتير للصراع السياسي النافي للاستقرار. *رغم التوافق على المادة الثانية التي تعتبر"مبادئ الشريعة الإسلامية المصدر الأساسي للتشريع"، إلا أن "الإخوان" و"السلفيين" أضافوا مادة، ( 219)، تعرِّف مبادئ الشريعة الإسلامية بـ"أدلتها الكلية وقواعدها الأصولية والفقهية ومصادرها المُعتبرة في مذاهب أهل السنة والجماعة"، بل، ومادة أخرى (4) تنص على "أخذ رأي هيئة علماء الأزهر"، (أي ليس المحكمة الدستورية فقط)، لدى الحكم على مطابقة التشريعات مع مبادئ الشريعة الإسلامية. وفي هذا ما يفتح، (بمراوغة)، على سلطة "ولاية الفقيه"، وبالتالي، على توتير الصراع الديني والمذهبي النافي للاستقرار. *في المادة العاشرة، تم التوافق على نص "المصريون سواء أمام القانون"، لكن "الإخوان" و"السلفيين" رفضوا، بإصرار، إضافة "بمعزل عن دينهم أو مذهبهم أو جنسهم أو معتقدهم أو طبقتهم أو...الخ وفي هذا، بلا شك، رفض مقنَّع لمفهوم المواطنة الذي دون ممارسته يغدو الحديث عن الاستقرار ضرباً من الخيال، ليس إلا. *في المواد التي تتحدث عن الحقوق الاجتماعية والاقتصادية، أصر "الإخوان و"السلفيون"، (مثلاً)، على ربط الحد الأدنى للأجور بالإنتاج، وليس بالأسعار والأرباح، وعلى عدم تحديد حد أعلى لملكية الأراضي، بل، وعلى رفْضِ إيراد نص يمنع تملّك الأجانب لها، وعلى جواز حل النقابات، وليس مجالسها الإدارية فقط. وفي هذا، دون ريب، تبنٍ لمصالح الأثرياء على حساب الفقراء الذين دون إنصافهم يغدو الحديث عن الحد الأدنى من العدالة الاجتماعية، مجرد لغوٍ يفتح على تعميق الصراع الاجتماعي النافي للاستقرار، بل، وعلى تجديد دوافع الثورة، بحسبان أن تعظيم ظواهر الفقر والبطالة والأمية والعيش في العشوائيات والمقابر، هو، سؤال شعب مصر الأساس، ومصدر ثورته الفعلي. *في المواد التي تتحدث عن نظام الحكم، (شبه الرئاسي)، أصر "الإخوان" و"السلفيون"، (مثلا)، على إعطاء رئيس الجمهورية صلاحية تعيين رؤساء أجهزة الرقابة التي يفترض فيها المراقبة على سلطته، وعلى السلطة التنفيذية، عموماً. وفي هذا تجديد لنظام الاستبداد الذي ثار عليه شعب مصر طلباً للحرية التي دون نيلها لن تستقر مصر. *بعد الحديث الإنشائي عن الحريات العامة والخاصة أصر "الإخوان" و"السلفيون"، (مثلاً)، على إضافة مادة تنص على ضمان "الدولة والمجتمع" عدم المساس بالأخلاق والقيم الأصيلة. وفي هذا ما يفتح، وإن بشكل موارب، على معزوفة "الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر"، وبالتالي، على عدم الاستقرار، ولعل الهجمة الجارية على القضاة، وعلى الإعلام والإعلاميين، على يد أنصار "الإخوان" و"السلفيين"، مجرد مؤشر على أن ما هو قادم أشد وأعظم. قصارى القول: لئن كانت مناورة، (جلب الاستقرار وإحباط المؤامرة)، قد مكنت "الإخوان" من تمرير مشروع دستور ملغَّم وغير توافقي، فإن ما تلا هذه المناورة من صراع، ممتد، معقَّد، ومتعدد الأوجه والأطراف والمراحل والأشكال سيرتد وبالاً على مصر واستقرارها أولاً، وعلى "الإخوان" وسلطتهم ثانياً. ففي مضمون هذا الدستور الملغم، فضلاً عن وسياقه، ومناورات تمريره، ما يؤكد أن مشروع "الإخوان" هو مجرد إجابة خاطئة عن سؤال سياسي اجتماعي صحيح ومعقد.