غزة أرسلت رسالة.....لكن

حجم الخط
منذ انطلاقتها عام 1965 وحتى العام 2006، تاريخ خسارتها غير المسبوقة في الانتخابات التشريعية والمحلية، ظلت حركة "فتح"، لأسباب عدة، وأساساً، بسبب كفاحيتها، ونيلها شرف تفجير الثورة الفلسطينية المسلحة المعاصرة، التنظيم السياسي الفلسطيني الأكثر شعبية، وبالتالي، التنظيم القائد، بلا منازع، للإطار الوطني الجامع، منظمة التحرير الفلسطينية. انقلاب المزاج الشعبي في انتخابات العام 2006، حمل رسالة كبيرة إلى قيادة "حركة "فتح"، فحواها: بنشوء السلطة الوطنية الفلسطينية، أصبح تداخل الوطني والديمقراطي أكثر تعقيداً في المجتمع السياسي والمدني الفلسطيني، ما أفضى إلى اكتساب معيار إدارة الشأن الداخلي دوراً أكبر في ضمان تجديد، أو الحفاظ على، الشرعية الثورية التي يبدأ رصيدها، مهما كان عظيماً، بالتآكل إذا لم يقترن قبول التعددية والتنافس الحر بين البرامج المختلفة، بالكف عن ممارسة نظام الحزب الواحد الذي يفضي، بطبيعته، وبكل أشكاله، إلى الخلط بين الحزب الحاكم والنظام السياسي، وبين الأخير والدولة، وبالتالي إلى التفرد والإقصاء والانقسام والاحتراب والفساد، وهو ما ينعكس سلباً على الشعب والمجتمع، وعلى الحزب الحاكم نفسه، أيضاً، كما دلت تجارب جميع أحزاب حركات التحرر التي اعتمدت، صراحة أو ضمناً، نظام الحزب الواحد في بناء، وإدارة، سلطة ما بعد الثورة، بدءاً بتجربة أحزاب حركات التحرر الاجتماعي في الاتحاد السوفييتي وبلدان أوروبا الشرقية، وصولاً إلى تجربة أحزاب حركات التحرر الوطني في ما يسمى "بلدان العالم الثالث"، ومنها أحزاب حركات التحرر الوطني العربية في مصر والعراق وسوريا واليمن، بشقيه الشمالي والجنوبي، والجزائر وتونس، أما في ليبيا فقد كانت الحال من العجائبية إلى درجة حظر الأحزاب من حيث المبدأ من على قاعدة: "كل مَن تحزَّب خان"، كما قال، ومارس، العقيد القذافي في زمانه. لكن، ولأن قبول حركة "فتح" بالتعددية، حتى، وإن لم يقترن بالتخلي كلياً عن تشوهات نظام الحزب الواحد، فإنه يبقى، بكل المقاييس والمعاني، أقل شراً من قبول حركات "الإسلام السياسي"، ومنها حركة "حماس"، لهذا المبدأ لمرة واحدة فقط، أي استعماله أداة للوصول إلى السلطة، ليس إلا. لذلك، فإنه، لم يكن غريباً، بل، وكان طبيعياً، ألا يحول "النصر العسكري" لـ"حماس"، علاوة على صعود تيار "الإسلام السياسي" عربياً، دون خروج "طوفان بشري لم تشهد له غزة مثيلا من قبل"، حسب ما وصف المراقبون، احتشاد الكتل الجماهيرية، بتلقائية وعفوية، في ساحة "سرايا" غزة والشوارع الرئيسية والفرعية المفضية إليها، لإحياء الذكرى 48 لانطلاقة الثورة الفلسطينية المسلحة المعاصرة، انطلاقة حركة "فتح". بهذا كان من المنطقي، اعتبار هذا الحشد حدثاً سياسياً فلسطينياً كبيراً، كسر، بكل المعاني والمقاييس، ما سبقه من مسلمات ذهنية، ووضع أصحابها، وقيادة "حماس" بالذات، أمام مفاجأة شعبية مثقلة بدلالات، ورسائل، واستحقاقات، مختلفة، تذكِّر بانقلاب المزاج الشعبي الفلسطيني النوعي في الانتخابات التشريعية والمحلية في العام 2006، التي أظهرت تراجع شعبية حركة "فتح"، وما أصاب تنظيمها من ترهل وتفكك وتصدع وصراع أجنحة. ثمة في احتشاد جماهير غزة غير المسبوق معاقبة لـ"حماس"، ومكافأة شعبية لـ"فتح"، بما يعني أنها مكافأة تنطوي على رهان ستعجز الحركة عن تلبيته، إن لم تتعامل قيادتها معه، في الممارسة قبل القول، كاستحقاق، يفرض، بين ما يفرض، إعادة بناء التنظيم الشعبي للحركة، وإعادة الفصل بينه وبين تنظيم السلطة وأجهزتها الأمنية والإدارية، بما هي خيار فاشل في إدارة الصراع مع الاحتلال، وفي الحكم وإدارة المجتمع، أيضاً، ما يتطلب إقدامها، (قيادة "فتح")، بجدية ودون إبطاء، على إجراء المراجعة النقدية المطلوبة وعدم النوم على حرير هذه المكافأة الشعبية الثمينة جداً كدلالة، إنما الكبيرة جداً جداً كاستحقاق ورهان. فـ"الطوفان الجماهيري غير المسبوق"، وإن أظهر صعوداً، (لا تخطئه العين)، في شعبية حركة "فتح" في غزة، إلا أنه عبر، أساساً، عن كل من يرفض إدارة "حماس"، ما يعني أن شعبية "حماس" ليست كما تشيع قيادتها من دون فحص عملي، (صندوق الاقتراع) منذ فوزها المبهر في انتخابات العام 2006، الذي يبدو أن قيادة "حماس" لم تتعلم الدرس من تجربة خسارة "فتح"، حين أحلت الأيديولوجي الثابت محل الواقع المتحرك، كأنه هو. وتبدى ذلك في تجاهلها الحقائق التالية: *أن فوزها كان تعبيراً عن رغبة شعبية في التغيير وجدت ضالتها، (آنذاك)، في ما قالته عن نفسها كقوة معارضة غير مجربة كسلطة. *أن فوزها باعتماد نظرية "شيطنة" الآخر، عنى زيادة متطلبات إثبات "ملائكية" الذات. *أن حصادها، وفقاً للقائمة النسبية، كان هو المعيار الأدق لقياس شعبيتها آنذاك: 29 مقعداً مقابل 35 مقعداً لفصائل منظمة التحرير، (28 منها لـ"فتح). *أن اكتساحها لمقاعد القوائم الفردية: (45 مقعداً)، مقابل، (21)، لـ"فتح" يعود إلى تشتيت الأصوات الفعلية لـ"فتح" بسبب تعدد مرشحيها، وتنافسهم الذاتي. *أن التصويت لها يبقى قابلاً للتغيير، وخاصة وأن جزءاً منه جاء نكاية بمنافسها، ("فتح")، وليس قناعة بها. ويبدو لي أن هذا هو الدرس الداخلي الأهم لحدث إحياء الذكرى 48 لانطلاقة الثورة الفلسطينية المعاصرة، الذي كشف عن اغترار قيادة "حماس"، وبلوغه حدَّ عدم التدقيق في ملابسات فوزها، بل، وعدم التدقيق في ما يجلبه اللجوء إلى الوسائل العسكرية سبيلاً للسيطرة السياسية على غزة، من سلبيات على شعبيتها، بعد شق "السلطة الفلسطينية" إلى قسمين. ناهيك عن انتهاج الحركة لنظام سلطوي فج، فئوي، احتكاري، تسلطي، لم يتحمل حتى رؤية احتشاد مئات الألوف من المواطنين في نهاية العام 2007، لإحياء الذكرى الثالثة لاستشهاد الرئيس والزعيم الفلسطيني التاريخي، ياسر عرفات، حيث تم الاعتداء على المهرجان، ما أدى إلى سقوط، (8)، شهداء، وإصابة عشرات المواطنين، وإلى اتخاذ قرار يحظر على حركة "فتح" إحياء المناسبات الوطنية، مع ما في ذلك من عمى أيديولوجي لا يرى أن هذه الحركة، برغم خسارتها لجولة انتخابية، إلا أنها ما زالت تحظى بقاعدة شعبية واسعة وعريضة. هذا ناهيك عن أن سلطة "حماس" لم تتسع لمشاركة أحد، مع كل ما أفرزه ذلك من قمع للحريات العامة والفردية، وممارسة الاستدعاء، والاعتقال، ومنع السفر، والتعدي على المؤسسات، بوضع اليد عليها، أو إغلاقها، في ظل حالة مجتمعية مثقلة بسياسة الحصار والعدوان والحروب الإسرائيلية، وطافحة بمشاكل اجتماعية واقتصادية حادة، مثل مشاكل الكهرباء، والتعليم، والصحة، والبطالة، مقابل صعود شرائح اجتماعية ترعاها، وتستفيد منها، "حماس"، سواء عبر إدارتها لـ"اقتصاد الأنفاق"، أو عبر احتكارها للوظيفة العمومية، ما خلق معادلة: غزة المجتمع تعاني، و"حماس" التنظيم" تستفيد في ظل الحصار والحروب. ربما نسيت قيادة "حماس" أنها بذلك إنما تؤكد أن صعود "الإخوان" في في مصر بالذات، هو، وإن كان لصالحها، لناحية المكاسب الآنية غير المستقرة، إلا أنه ضدها، لناحية الإخفاقات الناجمة عن الإصرار على التفرد بمكاسب الانتفاضات الشعبية، وإعادة إنتاج أنظمة الاستبداد المطاحة، وفي هذا، (برأيي)، يكمن مضمون رسالة جماهير غزة الرافضة، بأصالة، لأدلجة المشروع الوطني الفلسطيني، ولزجه في حسابات فئوية، وحزبية، ضيقة.