سوريا .. خرافة الحل السلمي

حجم الخط
بخلاف كل ما يشاع، وما يقال، وما يروج عن حل سلمي للأزمة في سورية، والقول بأن هناك توافقاً روسياً أمريكياً حيال الموضوع، فلا تبدو، في الواقع، وعلى الأرض أية ملامح لهكذا حل مفترض أو مزعوم، ولا تتبدى، في الحقيقة أي بوادر للتهدئة، وللتبريد، وليس هناك ثمة تسريبات لصفقة وتسوية، ما فتئ بعض إعلام، وأصوات تتحدث عنها، وتسوّق لها. وعلى النقيض من ذلك كله، تماماً، نلمس ثمة تصعيداً واضحاً، في المواقف واللهجات، وارتفاعاً حاداً في نبرة الخطاب، وتعنتاً ملحوظاً، عند هذا الطرف أو ذاك. وهناك تسابق محموم، وسعي دؤوب بين أطراف عدة، تقود الصراع وتوجهه من الخارج، وما تنفك ترسل رسائلها، لأدواتها على الأرض، لتسعير المواقف، وقد تم، بالفعل، وبعد الترويج لمقولة الحل السلمي، فتح جبهات جديدة، كعملية الهجوم على مدينة الرقـّة الآمنة الوادعة المسالمة، وتسخين بؤر عرفت تهدئة، و تبريداً لمدة قاربت السنة كحيّ بابا عمرو الحمصي، الذي تم تحريره من براثن الجماعات المسلحة في العام الفائت، وكان يعتبر، في حينه، مركز تحكم وسيطرة وقيادة، أو ما يعرف في العلوم العسكرية ويرمز له اختصاراً بـ C&C ، وذلك نظراً لما احتواه في حينه من معدات وأجهزة متطورة ووسائل اتصال غير تقليدية، وأسلحة حديثة ونوعية وضعت بتصرف المسلحين، لإبقائهم في وضع من المقاومة والصمود لأطول فترة ممكنة.‏ في هذه الأثناء، تنهال التصريحات النارية المتتالية من تلك العواصم، التي تدير الصراع عسكرياً، وتدعمه دبلوماسياً، وتروج له سياسياً، تتضمن كشفاً عن نوعية، وطبيعة، وكمية هذه الشحنة العسكرية التي ستـُسلم قريباً للمسلحين، وأثمانها، ومكوناتها. وتبدو واشنطن اليوم، في وضع أقرب لدعم تسليح المعارضة، والتغاضي عن التمويل، من وضع الضغط على حلفائها، وأتباعها، وأزلامها، في المنطقة للكف عن إرسال السلاح والمسلحين لسورية. وقد أظهرت زيارة جون كيري للمنطقة، وخاصة لتلك العواصم، التي تمد المسلحين بالمال والعتاد، نوعاً من المهادنة، والتسامح، وربما القبول بفكرة التسليح، ولم نسمع عن كلمة اعتراض واحدة نطق بها المستر كيري لوكلائه للكف عن التسليح، أو رفض الموضوع، حين كان صقور “التسليح” يفصحون عن رغبتهم في ذلك. وباعتقادنا، ومن معرفتنا بدقائق وحيثيات إدارة أمريكا لعلاقتها الإملائية الفوقية مع حلفائها، أو لنقل أدواتها، فإن مجرد رفع سماعة التلفون، من قبل موظف من الدرجة الخامسة في الخارجية الأمريكية، وليس البيت الأبيض، كان، لوحده، كافياً، وكفيلاً بإقفال الحدود، ومنع تسلل المقاتلين، نهائياً، وإغلاق “مزراب” أو حنفية الذهب الخليجية البترودولارية للمسلحين وسماسرتهم وتجـّار الموت الأسود في سورية. كما لا يجب أن نغفل، البتة، عن ذاك السجال المكـّوكي والتجاذب السينمائي الظاهري في أوروبا، حول رفع ولا رفع الحظر عن توريد السلاح لسورية، وكأن أوروبا قد تحولت لملاك أبيض، ولم تفعل ولم تتورط، حتى اللحظة، في الدم السوري، وكأن كل ذاك السلاح الثقيل، والمناظير، أو العتاد الخارق والنوعي والمتقدم الذي نراه في يد المسلحين، ويتباهون فيه “التيوب”، وفي القنوات، إياها، يأتيهم من دول الساحل الإفريقي الفقيرة المعدمة، أو يهطل عليهم من المريخ، وليس، البتة، من خارج سخاء منظومة الاتحاد الأوروبي، أو من بركات العم سام الأمريكي.‏ لكن من المفيد الإشارة، والحال، إلى أن أي توقف للقتال في ظل الأوضاع الحالية على الأرض، وفي ضوء عجز المسلحين الواضح عن تحقيق أي إنجاز عسكري نوعي ومعتبر، سيعني، حكماً، نصراً سورياً أكيداً، وإعلاناً لانهيار وتداعي مشروع إسقاط الدولة السورية، والقضاء على جيشها الوطني، وتفتتيتها، وتذريرها، وسيكون بمثابة إقرار بالهزيمة، وتسليم بالأمر الواقع، ورفع للرايات البيضاء، وتعبير عن عجز بتحقيق أي اختراق نوعي عسكري على الأرض، وهذا أسوأ كابوس، أو حقيقة يمكن لأطراف العدوان ومدبريه مواجهتها، وتخيلها، أو النطق بها، وبالتالي، قبولها والتعايش معها، بعد كل ما بذلوه، وما صرفوه من أموال، وجهد، وتعب وعناء، على الساحة السورية. وباعتقادنا، فإن هذا الاستعصاء العسكري على الأرض هو وراء تأجيل القمة الأمريكية الروسية، والمماطلة فيها، وهو أيضاً الذي يفسر هذا الاهتزاز والتضارب والاضطراب، وحالة الإرباك والارتباك الظاهر للملأ في إعلان الحكومات العتيدة والمنتظرة والتي أعلن عنها، غير ذات مرة، والتي قيل بأنها ستدير “مناطق محررة”، (هكذا)، في حين لا تبدو هناك أي حدود، أو جغرافية واضحة لأزعومة هذه “المناطق المحررة”، لا بل شكـّل إلغاء زيارة معاذ الخطيب، رئيس ما يسمى بالائتلاف المعارض، إلى موسكو، بوحي وإيعاز، من العواصم، إياها، ذروة تراجع وتقهقر ما يسمى بالحل السلمي، وفي المدى المنظور على الأقل لقطع الطريق على أي حل تفاوضي.‏ وهذه ليست، بالمطلق، محاولة لرسم صورة سوداوية وقاتمة لواقع معاش، بقدر ما هو نقل شفاف وأمين لمعطيات معروفة ستفضي، ولا شك، لتصورات لا سلمية، كما يبدو، وفيما يلوح من أفق مشوش ضبابي، لكن، وبعكس كل ما يشاع، أيضاً، ليس هناك أيضاً، أي بوادر، وملامح لانهيار وتضعضع وانهيار لأجهزة الدولة السورية، أو ضعف لجيشها الوطني، وليس هناك، في الآن ذاته، أي مخاوف من حدوث فجوة كبيرة في موازين القوى، أو فيما يتوفر لدى الدولة السورية من إمكانيات ردع استراتيجي شامل. وأمـّا ذاك الكلام الخجول والمائع، والمتردد الباهت، أحياناً، من بعض العواصم، (التي تتمنع وهن غير راغبات) فما هو، وأمام ضغط الرأي العام الذي بدأ يعي ويميز ما يحصل من تلفيق وتضليل دعائي، إلا محض محاولات غير جادة، وغير بريئة، لتبيض النوايا، وللتبرؤ والتنصل، بآن، من المسؤولية والتورط المباشر في الدم السوري، ونفي التدخل السافر بشأن محلي، بدأ يتضح، وعلى نحو صارخ ومدو، للرأي العام العالمي، لينفي ويسقط معه، أيضاً، كل خطاب، وأي لغو عن انتفاضة شعبية، وحراك ثوري سلمي عام.‏