عن العدوان الإسرائيلي على سورية

حجم الخط
قبل نشوب الأزمة السورية الداخلية بسنوات، وبغطاء سياسي أمريكي، شنت إسرائيل في العام 2007 عدواناً جوياً استهدف منشأة سورية في دير الزور بذريعة أنها نووية. وبذريعة مد المقاومة اللبنانية بأسلحة نوعية، وفي إطار استغلال الأزمة السورية الداخلية، شنت إسرائيل في 30 كانون ثاني الماضي عدواناً جوياً آخر استهدف "مركزاً للبحث العلمي وتطوير القدرات العسكرية السورية الدفاعية"، (وفقا لبيان الجيش السوري في حينه). وفي يومي الجمعة والأحد الماضيين، بالذريعة ذاتها، وبالغطاء السياسي الأمريكي ذاته، شنت إسرائيل عدواناً جوياً جديداً استهدف عدة مواقع عسكرية سورية. مع تكرار جولات العدوان الإسرائيلي على سورية- قبل وبعد أزمتها الداخلية- صار واضحاً-بلا لبس أو إبهام- أن قادة إسرائيل، بدعم وغطاء من الولايات المتحدة، يستغلون الأزمة السورية الداخلية من أجل تصيُّدِ وتدمير ما أمكن من القدرات العسكرية السورية النوعية، التقليدية منها وغير التقليدية. بهذا صار من السذاجة السياسية إنكار حقيقة أن الصراع في سورية قد تحول-بدرجة تكاد تكون كلية- إلى صراع على سورية الدولة والجيش والمجتمع والدور والمكانة لا النظام السياسي فحسب. فالمرء لا يحتاج إلى أن يكون خبيراً عسكرياً كي يميز بين ضربات إسرائيل الموضعية وبين اعتداءاتها وحروبها الواسعة. فضرباتها الموضعية تكون إستباقية تستهدف إحباط خطر تكتيكي وشيك ليس إلا، فيما حروبها أو اعتداءاتها المنطوية على التحول إلى حروب واسعة تكون احترازية تستهدف تدمير قوة ردع إستراتيجية قائمة أو آخذة بالتشكل أو التطور. وبالمثل لا يحتاج المرء إلى عبقرية مخترع البارود كي يدرك أن إدراج قادة إسرائيل، بتغطية سياسية أمريكية، جولات عدوانهم الأخيرة على سورية في إطار سياسة الدفاع عن النفس، إنما يستهدف التضليل والتغطية على عدوانيتهم. فكل حروبهم، وما أكثرها، أفرزها- بمعزل عن ذريعة وتوقيت وظرف كل منها- نظام سياسي صهيوني قائم، بطبعه، على العدوان والتوسع ورفضِ التسويات السياسية، وعلى نهم السيطرة على المنطقة العربية وغلافها الإقليمي، والتفوق على دولها، والتحكم بمصير شعوبها ونهب ثرواتها، من موقع الشريك الحارس والحليف الإستراتيجي الثابت للنهب الغربي، والأمريكي منه بالذات. وإذا شئنا إمساك الثور من قرنيه، فإن عدوان إسرائيل الأخير على سورية، هو ليس مجرد ضربة موضعية استباقية، ولا علاقة سياسية له، (إلا كظرف ملائم وتوقيت مناسب)، بالصراع الداخلي المسلح على السلطة السورية، بل هو عدوان يستهدف، مثله مثل عدوان دير الزور، (2007)، وعدوان جمرايا كانون ثاني الماضي، سورية الدولة لمنْعِها، بمعزل عن طبيعة، واسم، وهوية، نظامها، وعن مآل الصراع الدائر فيها، من امتلاك أو تطوير أسلحة نوعية، تقليدية أو غير تقليدية، من شأنها أن تخل بتفوق إسرائيل الإستراتيجي الشامل على ما عداها من دول المنطقة وقواها، ما يعني أن هدف هذا العدوان يندرج في إطار الهدف السياسي الإستراتيجي ذاته للعدوان على المفاعل النووي العراقي،(1981)، ولضرب مستودع تصنيع الأسلحة في السودان، (2012)، وللتخريب الكتروني لبعض المنشآت النووية الإيرانية، إذ بمعزل عن ذريعة هذا العدوان وتوقيته وظرفه، فإن هدفه السياسي يبقى تدمير ما أمكن مما تمتلكه سورية الدولة من أسلحة نوعية، تقليدية أو غير تقليدية، وخاصة الصاروخية، وبعيدة المدى منها بالذات التي يبدو أن العدوان الجوي الإسرائيلي الأخير استهدف -عن بعد ودون اختراق المجال الجوي السوري- عددا من مواقع تخزينها. لكن، وعوض التركيز على الأسباب والدوافع والدلالات والأهداف السياسية بعيدة المدى لهذا العدوان، ركز كثير من الساسة والمحللين العرب، وساسة ومحللي الموالاة والمعارضة المسلحة في سورية بالذات، على البحث في ذريعة وتوقيت العدوان وظرفه بقراءات، هي أقرب إلى الصحافية منها إلى السياسية. قراءات تلوك المكرر وغير المنطقي من البحث في سؤال لماذا الآن ارتكبت إسرائيل هذا العدوان رغم أنه مماثل وغير منفصل في هدفه السياسي الإستراتيجي عما سبقه من جولات عدوان على سورية ودول عربية وإقليمية أخرى. إن التركيز على سؤال "لماذا الآن" تعتدي إسرائيل ينطوي على تسطيح الدوران حول ظاهر يخفي باطن، وهو الدوران الذي يقود، بوعي أو بجهالة، إلى تيه سياسي إستراتيجي يساوي، (برأيي)، تيه الاستغراق في سؤال (لماذا الآن)، تلسع العقرب التي، بطبعها، لا تكف عن اللسع، حيثما وكلما توافرت لها الفرصة؟! والأنكى هو نسيان أو تناسي أن هذه "الآن" إنما هي نتيجة طبيعية لما "كان"، أي لما ساد النظام السياسي الرسمي العربي- منذ عقود- من حالات استبداد وفساد وقمع وعجز وتبعية وخضوع وانقسامات وخصومات، حالت دون استخدام الحد الأدنى من أوراق القوة العربية، وما أكثرها، وحبست الطاقات الشعبية العربية الهائلة ومنعت تثويرها بالمعنيين الوطني والديمقراطي على ما بين الأمرين من ترابط. ترابط استفحل فكان أن قاد إلى انفجار الحراك الشعبي العربي الذي بعفوية إنطلاقه وشراسة قمع الأنظمة له وركوب حركات إسلاموية محافظة إقصائية وأخرى رجعية تكفيرية لموجته، صار- في المديين المنظور والمتوسط على الأقل- قابلاً لكل أشكال الانحراف والاحتواء والاستغلال، بما في ذلك التحول إلى حروب أهلية دينية وطائفية ومذهبية وإثنية وجهوية فتاكة تغذيها وتستعملها السياسة الأمريكية الشرق الأوسطية التي غيرت إدارة أوباما شكل ووسائل إستراتيجيتها القائمة- مضموناً وأهدافاً- على تعزيز السيطرة على المنطقة ونهب ثرواتها وتفوق إسرائيل فيها. فإدارة أوباما تعمل على تحقيق هدف "المحافظين الجدد" ذاته، إنما بوسائل أخرى لا تستثني إشعال الحروب مع الميل ما أمكن إلى إدارتها وتجنب التورط الواسع والمباشر فيها، سواء كانت بين دولتين أو بين مكونات دولة واحدة كما يجري في سورية، (مثلاً)، ما يعيد للذاكرة إستراتيجية "الاحتواء المزدوج" ومثالها الأبرز تشجيع الولايات المتحدة وتوابعها على اندلاع وإطالة أمد الحرب العراقية الإيرانية العبثية في ثمانينيات القرن الماضي. لكن هذا لا يعني استبعاد احتمال اضطرار إدارة أوباما لقيادة عدوان عسكري واسع ومباشر على سورية، فدعمها لإسرائيل وتغطيتها لجولات العدوان على غزة وسورية وربما على المقاومة اللبنانية لاحقاً، بما لذلك من تداخل مع الملف الإيراني، يمكن أن يتدحرج إلى حرب إقليمية واسعة مهولة التداعيات والارتدادات وغير مضمونة النتائج. هذا رغم أن إستراتيجية تغذية الصراع العسكري داخل سورية وتحويله إلى حرب أهلية طويلة الأمد، بما يعيق حله سياسياً، ويستنزف طرفيه ومعهما سورية الدولة، هي بكل المعاني، إستراتيجية أنجع لتدمير سورية الجيش والمجتمع والدور والمكانة بمعزل عن طبيعة نظامها واسم ولون من يحكمها لاحقاً كدولة فاشلة وربما مقسَّمة أو قابلة للتقسيم والتقاسم. فهذه الإستراتيجية أسفرت-على مدار عامين ويزيد- عن قيادة الولايات المتحدة اصطفافاً سياسياً دولياً إقليمي عربياً ضد سورية مكن قادة إسرائيل من التجرؤ على تكرار وتوسيع نطاق جولات العدوان على سورية إلى درجة أن تكون الأخيرة منها في منزلة عدوان، هو، ورغم أنه أقل من حرب، إلا أنه يعلن حالتها، وينطوي على احتمال وقوعها، ولست أدري، كما لا يدري غيري، إن كانت إسرائيل، بدعم وربما بطلب من الولايات المتحدة تستحث خطى الجري إلى مثل هذه الحرب. فقد كان لافتاً التحذير الروسي من أن العدوان الإسرائيلي الأخير على سورية ينذر بتدخل عسكري غربي واسع ومباشر في سورية، بل، وحتى فرنسا التي دافعت عن "حق إسرائيل في الدفاع عن أمنها"، رأت أن ثمة مجازفة في ما أقدم عليه قادتها ضد سورية. هذا بينما انفردت كل من الولايات المتحدة وبريطانيا بتغطية هذا العدوان والدفاع عنه، ما يعني أنهما لا تعلمان به قبل وقوعه فقط، بل وشجعتا، وربما طلبتا، تنفيذه، أيضاً، ما يعني استعدادهما لتحمل مسؤولية تداعياته. هذا احتمال وارد، وإن كان غير مرجح. فالسياسة-والحرب امتداد لها- جبر وليست حساباً، أي تنطوي على المجهول دوماً.