"الإسلامويون" والتغيير العربي

حجم الخط
بعد خفوت نسبي مؤقت لمدة عام، هو عمر الحراك الشعبي العربي، الذي أطلقته طاقات شبابية ناهضة، ولم تحظَ "المعارضات" العربية بشرف إشعال شراراته الأولى، بل، ولحقت بركبه بعد تردد، عادت، بتياراتها المتنوعة، القومية والإسلامية والليبرالية واليسارية، إلى ديدن الصراع على قضايا أخلاقية وقيمية، وهو صراع، على أهميته، إنما يقع خارج الأجندة الفعلية للتغيير في الحياة السياسية العربية، غذته الحقبة الوهابية النفطية، بكل ما أنتجته من بنى فوقية، بدت ساحرة، بما تطرحه من حلول سياسية وعظية، وبما تقدمه من برامج مجتمعية للإعاشة والإغاثة، بل، وبدا كأنها إجابات صحيحة، وليست مجرد إجابات خاطئة، عن أسئلة صحيحة، بعد أن سرت، (كالنار في الهشيم)، في المجتمع العربي، بشقيه السياسي والمدني، المثقلين بعملية منقطعة النظير من التصحُّر والتجريف، قامت بها، على مدار عقود، أنظمة حكم استبدادية فاسدة وتابعة، غابت عنها المساءلة الشعبية والمرجعيات القانونية والدستورية الفعلية، وقادتها نخب سياسية، خرجت من عباءة أنظمة الانقلابات العسكرية، وارتدت على ما أنجزته، قومياً ووطنياً وديمقراطيا، بعد أن حولت السلطة إلى حقل للتوريث ومصدر للثروة، بل، وإلى آلية جهنمية للتبعية والفساد والإفساد والثراء الفاحش والقمع والإفقار والبطالة والحط من الكرامة... الخ ما أدى إلى إعادة تشكيل بنى الدولة القُطْرية العربية، وإلى تدجين الجيوش وتهميشها، لمصلحة تقوية أجهزة الأمن الداخلي، التي تم دمجها عضوياً بالجهاز البيروقراطي الحكومي، وإلى إطلاق يد الحاكم الفرد في خرق المحرمات الوطنية والقومية، ناهيك عن ما أقدمت عليه هذه النخب من سحقٍ للطبقة الوسطى، ومن تراجع عن المكتسبات الاجتماعية والاقتصادية للطبقات الشعبية، وكل ذلك لمصلحة تسمين طبقات وفئات طفيلية متحالفة مع بيروقراطية منتفعة، قادتا سوياً عملية تدمير القطاع العام، الذي تم بيعه للمغامرين المتسلقين بأبخس الأثمان، وأطلقتا يد السوق الحرة وقوانينها، من خلال الاندراج في دواليب الليبرالية الجديدة، والرضوخ لاملاءات صندوق النقد والبنك الدوليين وسياستهما، القائمة على الخصخصة وبيع القطاع العام، وتخليع أبواب البلاد وفتحها، من دون رقيب، أمام الاستثمارات الغربية ورأس المال الاحتكاري المعولم، بكل ما رافق ذلك من سيادة للرشوة، ونهب للمال العام، والاستيلاء على الأصول الوطنية السيادية كالأراضي ومناجم المعادن وغيرها من الموارد. في هوامش هذه البيئة، سياسياً واجتماعياً واقتصادياً، نمت وترعرعت البنى الفوقية للحقبة النفطية الوهابية، التي أنتجت فيما أنتجت، تشكيلات حزبية "إسلاموية" متشددة، عمدت إلى تقسيم المجتمع إلى "فسطاطين"، أحدهما "مؤمن"، والآخر "كافر"، كتصنيف شمل "الغرب"، الذي ظهرت مشكلة العرب معه باعتباره "كافراً"، وليس "ناهبا" ومسيطراً، يغذيها في كل ذلك ظهورها بمظهر قوى المعارضة والتغيير لأنظمة الاستبداد والفساد والتبعية، التي استعملتها فزاعة، ترفعها في وجه قوى التغيير الفعلية، وطنياً وقومياً وديموقراطياً. ومن أسف، فإنه، وبينما شكَّل استبداد الأنظمة وقمعها وفسادها وتبعيتها، تربة خصبة لتنامي هذه التشكيلات الحزبية "الإسلاموية" المتشددة، التي يتدفق إلى حلق ما بنته من برامج ومؤسسات جماهيرية للإغاثة والإعاشة، الكثير من أموال البترودولار الخليجي، فقد انجرت، (كسمة غالبة)، قوى المعارضة والتغيير الأخرى، القومية والليبرالية واليسارية، ودخلت الصراع مع هذه التشكيلات المتشددة، في ملعب البنى الفوقية، وقضاياها الأخلاقية والقيمية، بدل أن تجرها إلى ملعب البنى التحتية، التي يؤدي التغيير الحقيقي فيها، إلى تغيير في الأفكار والقيم، ذلك أن الانخراط في الميدان العملي للدفاع عن الحقوق الاقتصادية والاجتماعية للناس عموماً، وللفقراء منهم بخاصة، يكتسب أهمية قصوى، في إعادة تفتيح عيونهم على مشاكلهم الحقيقية، (الواقعية)، في الصحة والتعليم والسكن والعمل و...ألخ وفي تخليص عقولهم من سحر سياسة الوعظ والإغاثة والإعاشة، من خلال النضال لتحويل حاجات الناس إلى حقوق مضمونة دستورياً ومُشَرَّعة قانونياً، وقابلة للتنفيذ. وهو الأمر الذي لا يمكن بلوغه، من دون انهماك قوى المعارضة والتغيير الفعلية في بناء التنظيم الشعبي، ومؤسساته الجماهيرية، ذات القيمة العليا في توعية الناس، وتنظيمهم على مطالب، وتقديم نماذج ملموسة في التنمية الذاتية، التي لا تعتمد تمويلاً أجنبياً، بأجنداته المختلفة، ولا صدقات ممولين محليين، بقدر ما تحتاج، وتستند، إلى مبادرةِ وريادةِ فاعلين منتمين للفكرة ومخلصين لها، وبجهودهم الذاتية. وهذا ليس توجهاً نابعاً من الخيال، أو مدفوعاً بنزعة إرادوية، فهنالك ما يؤكد واقعيته، في تجارب قوى معارضة وتغيير فعلية، في بلدان أميركا اللاتينية، (البرازيل، فنزويلا، بوليفيا، المكسيك)، ففي الأخيرة، (مثلاً)، قامت حركة "فلاحين بلا أرض"، بالاستيلاء على أراضٍ حكومية، وزرعتها، واستطاعت أن تبني قرى، وتوفر فرص عمل لقطاع واسع من الناس، وتقديم الخدمات لهم. وهذا ما خلق، بالتكامل مع تبني سياسة تناضل من أجل توفير شبكة أمان اجتماعي للمجتمع، ولطبقاته وفئاته الفقيرة بخاصة، وعياً مدنياً حقيقياً، غير قائم على الوعظ والتنظير، بل، على الممارسة، حيث يلمس الناس نتائج عملهم، ويصبحون قوة تغيير حقيقية، ذلك بحسبان أنه حيث لا ينفع الوعظ، ينفع تقديم القدوة، بما يقود إلى إعمال العقل في الواقع، وبالتالي نقل الوعي. في هذا الملعب من الحاجات الواقعية للشعوب العربية، كان يجب، بجسارة ومثابرة وطول نفس، أن تلعب قوى المعارضة والتغيير العربية الفعلية، وفيه، يجب أن تلعب قوى المعارضة والتغيير العربية الشبابية الناهضة، التي أطلقت الحراك الشعبي العربي، وانبثقت عنه، كحراك انطلق قبل عام، وما زال، متواصلاً، ويشكل، (بعد موجتي: الثورات الشعبية، التي لم تفضِ إلا إلى استقلال وطني شكلي، والانقلابات العسكرية التي دعمتها الشعوب)، الحلقة الثالثة، من حلقات الثورات الشعبية العربية، التي، موضوعياً، ومنذ قرنٍ ويزيد، أصبح هنالك تداخل بين قضاياها، (مهامها)، القومية والوطنية من جهة، وبين قضاياها، (مهامها)، الديمقراطية، السياسية والمجتمعية، من جهة أخرى، بل، وصار موضوع تشابك هذه القضايا، (المهام)، وترابطها، في الحياة السياسية العربية، واقعاً مفروضاً، ذلك بصرف النظر عن تفاوت التعبير عنه، وعياً وممارسة، في الفكر السياسي العربي، وفي ما أفرزه من أحزاب وتنظيمات ونخب سياسية، بتياراتها المتنوعة، القومية والإسلامية والليبرالية واليسارية، أما لماذا؟؟ فقد كان القرن التاسع عشر قرن نشوء "الدولة الأمة"، سواء بتجميع الأمة المُنتشرة في عدة دول في دولة واحدة، أو بانقسام الإمبراطوريات متعددة القوميات إلى دول قومية. وفي هذا السياق الذي سارت باتجاهه أحداث التاريخ، حاول العرب، في بداية العقد الثاني من القرن العشرين، الانفصال عن الإمبراطورية العثمانية التركية، لتشكيل دولة عربية - الدولة الأمة، لكن محاولتهم فشلت، حيث قامت دول الاستعمار الغربي المنتصرة في الحرب العالمية الأولى، ووفقاً لـ"مشرط" تقاسم مناطق النفوذ فيما بينها، بتقسيم الوطن العربي إلى عدة دول، (سماها الفكر العربي "أقطاراً")، بعضها "مستقل"، وبعضها تحت الانتداب، بينما قضى وعد بلفور بإقامة "وطن قومي لليهود في فلسطين". ومعلوم أن "مبضع" ذلك التقسيم لم يأخذ في الحسبان العوامل التاريخية والجغرافية والاقتصادية والثقافية للوطن العربي، بل، إن كل ما أخذه كان تقاسم النفوذ بين دول الاستعمار الغربي.