يبدو أن التحرك السياسي الذي بدأه وزير الخارجية الأميركية جون كيري قبل بضعة أشهر قد بدأ يعطي أول ثماره المرة، نحو استئناف المفاوضات بين الفلسطينيين والإسرائيليين في ظل شعور الطرفين، كل لأسباب خاصة به، بقدر من عدم الرضى.
فبالرغم من أن الأطراف المعنية لم تفصح صراحةً عن طبيعة الصفقة، أو الاتفاق الذي نجح كيري في التوصل إليه، إلا أن وسائل الإعلام تشير إلى أن كيري لن يعود من جولته السادسة للمنطقة صفر اليدين.
واشنطن ستكون المحطة المقبلة لبدء هذه المفاوضات، التي من المتوقع أن تديرها على الجانب الإسرائيلي تسيبي ليفني وزيرة العدل والمكلفة بمتابعة الملف، وعن الجانب الفلسطيني الدكتور صائب عريقات، عضو اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير وكبير المفاوضين.
الإشارة العملية الأكثر أهميةً لإنجاح مساعي كيري، تأتي من الجانب الإسرائيلي الذي تؤكد مصادر عديدة، استعداده للإفراج عن نحو مئتي أسير فلسطيني من بينهم نحو مئة ممن اعتقلتهم إسرائيل قبل توقيع اتفاقية أوسلو. يقابل ذلك كما تشير وسائل الإعلام، امتناع الطرف الفلسطيني عن مواصلة التوجه إلى الأمم المتحدة، وكأن الأمر لا يتجاوز خطوات متبادلة لبناء ثقة قوضتها السياسة الإسرائيلية على مر السنين.
وبالرغم من أن الإدارة الأميركية لم تتخذ أية مواقف جديدة إزاء قضايا الخلاف الفلسطيني الإسرائيلي، ما يعني أنها لا تزال عند سياسة الدعم الكامل والانحياز المطلق لإسرائيل، إلا أن قرار الاتحاد الأوروبي بشأن استثناء ما يتعلق بالأراضي المحتلة العام 1967 من أي تعاون بينه وبين إسرائيل، ينطوي على رسالة لا يمكن لحكومة نتنياهو أن تتجاهل أبعادها.
تعرف إسرائيل أن إقدام الاتحاد الأوروبي على مثل هذه الخطوة، لا يمكن أن يكون دون التنسيق مع الولايات المتحدة ورضاها، وقد يكون ذلك إشارة إلى أن الاتحاد الأوروبي قد يصعد من مواقفه المزعجة لإسرائيل، في حال استمرت في تصلبها ورفضها استئناف المفاوضات.
هذا لا يعني أن الضغوط الدولية متوقفة على الجانب الإسرائيلي فقط، بل إن واشنطن لم تتوقف علنياً أحياناً وسراً في معظم الأحيان، عن التلويح بإجراءات قاسية قد تتخذها ضد الطرف الفلسطيني في حال أصر على التمسك بمواقفه. لذلك لاحظنا أن اللجنة المركزية لحركة فتح أسقطت شرط وقف الاستيطان، وتكتفي بضرورة موافقة إسرائيل على الاعتراف بحدود الرابع من حزيران 1967 كأساس للتفاوض.
هكذا يكون كيري قد أحرز تقدماً محدوداً يقف عند حدود كسر الجمود القائم في مسار التفاوض، فلا إسرائيل وافقت على الشرط الفلسطيني ولا الفلسطينيون أسقطوا هذا الشرط حتى الآن. لكن علينا أن نتوقع بأن إسقاط الطرف الفلسطيني لأي من شروطه المعروفة، سيكون مقدمة لإسقاط بقية الشروط، فإذا بدأت المفاوضات يصبح من الصعب على أي من الطرفين تحمل المسؤولية عن تعطيلها.
وبالإضافة إلى ذلك، فإن إسقاط الفلسطينيين لأحد الشروط لم يأت تطوعياً، بل نتيجة لتعرضهم لضغوط هائلة، فإذا كانت هذه الضغوط ستظل حاضرة، فإن من المرجح أن تواصل توليد التداعيات ذاتها. إذاً الفلسطينيون والإسرائيليون وجهاً لوجه أمام الإصرار الأميركي على متابعة عملية السلام، لكن الطرف الفلسطيني مكشوف الظهر، في حين تتمتع إسرائيل بكل أسباب القوة التي تمكنها من تعطيل هذه المسيرة دون أن تتوقع من واشنطن أو غيرها أي عقوبات أو ضغوط تجعلها تمتنع عن ذلك.
إلى هذه المفاوضات يذهب الطرف الفلسطيني دون غطاء فلسطيني، إذ أعلنت كل الفصائل تقريباً مواقف رافضة لموقف الرئيس محمود عباس وحركة فتح، ما يعني أن منظمة التحرير ترفض هي أيضاً موقف الرئيس، اللهم إلا إذا كان البعض يعلن للرأي العام ما يخالف التصويت في الغرف المغلقة وخلال اجتماعات اللجنة التنفيذية.
وبغض النظر عن النتائج المتوقعة في حال استئناف المفاوضات، وهي في أغلب الأحوال لن تأتي للفلسطينيين بالحد الأدنى من تطلعاتهم، فإن موافقتهم على استئنافها في ظل استمرار الاستيطان وتهويد القدس، وإنكار حق اللاجئين بالعودة، إنما يشير إلى غياب الخيارات، وارتباك الاستراتيجيات، لكن لماذا يوافق الرئيس محمود عباس على استئناف المفاوضات على هذا النحو، وهو يعرف حق المعرفة أن إسرائيل ليست في وارد الالتزام برؤية الدولتين؟
أولاً: بعد عشرين عاماً من المفاوضات بين استئناف وتوقف، لم تتبدل الإرادة الدولية الساعية للسلام، هذا إذا كانت هناك إرادة دولية تسعى وراء السلام، فيما لم يبدل الفلسطينيون تحالفاتهم، فظلوا مرتهنين للاحتكار الأميركي ولدور الرباعية الدولية.
ثانياً: من الواضح أن الأوضاع العربية الراهنة، بما هي عليه وبآفاق تطورها المنظور، لا تقدم للفلسطينيين الدعم اللازم للثبات على المواقف، وما يمكن للجنة متابعة مبادرة السلام العربية أن تفعله لا يزيد على تحفيز الفلسطينيين على مزيد من المرونة والمزيد من التنازلات وفي أحيان أخرى تكون أطراف لجنة المتابعة مساهمة في الضغط على الفلسطينيين من باب الحاجة للمال.
ثالثاً: محدودية الخيارات الفلسطينية في ظل الانقسام الشامل الذي يميز الوضع الفلسطيني منذ أكثر من ست سنوات، إذ أصبح الفلسطينيون أسرى للواقع الذي نشأ بعد أوسلو، والواقع الذي حفروه بأيديهم. كل الخيارات الأخرى هي خيارات صراع واشتباك، تحتاج إلى بنية مختلفة، وظروف عربية ودولية مختلفة.
والسؤال: إذا كان الفلسطينيون أمام خيارين فقط المفاوضات على النحو المرتقب، وفي ظل شروط الوضع العربي والدولي، أو الصراع والاشتباك، فإن الفلسطينيين لم يجربوا حتى الآن خيار الوحدة والصمود، الذي يؤسس لمعادلة مختلفة تقوم على المزاوجة بين المقاومة بكافة أشكالها المناسبة، والمفاوضة، وهنا تكمن خطيئة القيادات السياسية بكل أطيافها، وأسباب اختلافها وخلافاتها.
في كل الأحوال وطالما يجتمع الفلسطينيون على احتمال فشل المفاوضات في تحقيق الحد الأدنى من تطلعاتهم، فإن هذه المحطة لا ينبغي أن تكون سبباً آخر لتعميق الانقسام، ونحو المزيد من التشرذم والضعف، والأرجح أن تكون هذه الجولة الأخيرة في مسار البحث عن السلام، ولذلك تقضي الحكمة بأن يجري استثمارها في اتجاه إعادة بناء الوضع الفلسطيني برمته على أسس جديدة، لتحقيق التلاقي مع مخرجات زمن الجماهير العربية، هذا الزمن المفتوح على وعود كبيرة لصالح القضية الفلسطينية وشعبها.
إن ما تشهده الساحة المصرية هذه الأيام ومنذ الثلاثين من حزيران الماضي، هو الذي يؤشر على المستقبل العربي، وليس ما يجري في أطراف المنطقة العربية، وعلى هذا ينبغي القياس.