قرار الاحتشام في جامعة الأقصى

حجم الخط
ربما ليس من الحكمة تناول موضوع الحجاب وتحجيب النساء بالكتابة، على الرغم من إسالته فيض الأحبار وأكوام الأوراق، بسبب قائمة الأحكام الصارمة للعقول المؤدلجة. لكن تعرّض طالبات جامعة الأقصى في غزة للضرب والإساءة تطبيقاً لقرار الاحتشام الصادر عن إدارة الجامعة، أمر يجب عدم السكوت عنه أو تمريره دون محاسبة وردع، كونه اعتداء صارخاً وإهانةً شنيعةً للطالبات، كما يمثل اعتداءً فظّاً على الحريات العامة والخاصة وانتهاكاً للقانون الأساسي الفلسطيني. يسيطر موضوع الحجاب والمرأة على النقاشات ذات الأبعاد الثقافية والاجتماعية في الساحة العربية. ومن الملاحظ في الآونة الأخيرة، أن الجدل قد ارتفعت نبرته وعلا صوته مع صعود الاتجاه الإسلامي، حاملاً معه الجهات والفئات السلفية، المغرمة أكثر من غيرها بهذا الجدل، إلى مراكز صنع القرار بالانتخابات. كما حفز على تصاعد عدد ونوعية الفتاوى المركزة على المرأة وحجابها ونقابها، كهاجس كبير يشغل وقتهم وتفكيرهم، كأمّ القضايا والمشاكل، فتوى تحريم قيادة السيارات بسبب شرورها وتهديدها عذرية الفتيات، فتوى غطاء العيون الفاتنة، وفتوى لبس الأحذية ذات الكعوب العالية وغيرها من الفتاوى التي لا يمكن ذكرها لجنونها وخدشها الحياء العام. لن أدخل في نقاش حجاب المرأة من زاوية الجدل الديني، بين من يرى الحجاب فرضاً شرعياً، أو من يرى إمكانية الاجتهاد وتأويل النص لصالح مقاربته الواقع الاجتماعي المعاش وتبعاً لتغيير الأدوار الاجتماعية. لكن الأمر يستدعي ويحتمل ويحتم الدخول بنقاش الأسباب السياسية خلف الحجاب والنقاب، وتوظيف العقيدة خدمةً لتحجيب الإناث، كوسيلة لتمييز الهوية السياسية لأصحابها وإظهار حجمها واتساع مدّها وحضورها القوي، دون أخذ الاعتبار للوسيلة، أكانت وسيلة ديمقراطية عن طريق توليد القناعة الفردية أم كانت الوسيلة قمعية وعبر القرارات والفرمانات على جميع الأشخاص!. لقد أصبح الحجاب والجلباب بمثابة وسيلة لخدمة الأغراض السياسية، وبدأ الفعل السياسي للمظهر يفعل فعله سواء عن طريق القناعة بحرية الاختيار أو عن طريق الضغط العام غير المباشر على المجتمع، رغبة في التماثل مع الأغلبية على طريقة المثل الشعبي "ضع راسك بين الروس"، كونه رُبط كذلك بصفة الالتزام بالأدب والأخلاق والعفة. فرض الحجاب الاجتماعي، أنشأ أنواعاً وأشكالاً وألواناً لا تعد من الحجب، الحجاب الشرعي المرافق للنقاب لدى البعض كعنوان لهوية دينية مختلفة وأكثر تطرفاً، أو للدلالة على نوع الطائفة، كما نشأ الحجاب العصري مع اللبس الحديث الملون والمتعدد الأشكال، وحُجب الفنانات المتعددة العاكسة لبصماتهن الخاصة والشخصية. إن تحجيب الإناث قسراً تعبير فج عن أزمة المجتمعات العربية، ومحاولة للحفاظ على بقاء العلاقات غير المتساوية بين الجنسين، واستمرار علاقة السيطرة والتبعية بينهما وتأبيد النظرة الدونية للمرأة، باعتبارها أداة ومصدراً للإغواء والفتنة والشهوة، الأمر الذي يتطلب حجبها وتمويه هويتها وسترها عن الأنظار، حمايةً لها كمخلوق ضعيف، لا يمكنه ليس الرفض فقط، بل الويل لهن إن تهورن وقمن برفض الوصاية، حيث سيكون عليهن دفع ثمن رفضهن منظومة الأخلاق والعفة والطهارة. لقد بدأ تسارع إصدار الفتاوى والقرارات الخاصة بالمرأة في غزة بعد استلام حركة حماس مقاليد الأمور في العام 2007، وكان قد بدأ تحجيب المرأة قسراً في الانتفاضة الأولى كمؤشر سياسي على حجم ونفوذ حركة حماس في الشارع، وللدلالة على هويتها الاجتماعية المختلفة. فمن قرار تأنيث المدارس ومحاولات فرض الزي الشرعي على الطالبات إلى فرض الحجاب على المحاميات في المحاكم النظامية، إلى منع النساء حصراً من تدخين النارجيلة في الأماكن العامة..! يعبّر تحجيب النساء جماعياً عن أزمة الثقة بين أفراد المجتمع، وعن النظرة النمطية للرجل كأحد الذئاب البشرية، وباعتباره مخلوقاً مهووساً بالجنس لا يتحكم بتصرفاته وسلوكياته. هذا الحكم يضعه في إطار موقفين متناقضين، فهو من جانب كأنه يحصر هدف الرجال في الوجود بالتلصص على جسد المرأة لإغوائها، ومن جانب آخر يكلفه مراقبة وملاحظة جسد الإناث من أجل عقابه، والغريب في الأمر أن الرجل يتم النظر إليه كفرد وجماعة، بينما ينظر للنساء كجماعة عليها حكم جماعي، دون تكليف النفس عناء النظر إلى الفروق الفردية، وإلى اختلاف معتقداتهن وآرائهن لذواتهن ورؤيتهن وخياراتهن لها، وبالتالي يصدر بحقهن الكم الأكثر من الفتاوى التي تنظم مسارهن وسلوكهن وتوحد رغباتهن دون النظر إلى حقهن في الاقتناع والاختيار الطوعي. لا يفيد كثيراً أن تنفي إدارة جامعة الأقصى الخبر، لأن الرصاصة التي خرجت لا يمكن إرجاعها إلى مكانها، فقد أحدثت ما هدفت إليه بنشر المزيد من الخوف والإرهاب والضغوط، وألحقت بشكل أساسي الأذى بالفتيات ممن تعرضن للمهانة والفزع، أو البقية ممن لم يتعرضن بشكل مباشر لنارها. ونهمس أخيراً، بأن تحجيب المرأة في فلسطين له لون وتفسيرات أخرى، فبالإضافة إلى الهدف السياسي بتعزيز حضور الاتجاهات السلفية والأصولية، فإنه بالنتيجة يعمل على استهداف الصورة الخاصة للمرأة الفلسطينية تكسيراً وتهشيماً لنضالها وإرادتها المستقلة، ويمثل محاولةً لإلغاء تاريخ وتمايز صورتها كمناضلة، وهي التي اقتحمت سافرة ميادين النضال والعمل السياسي بجرأة وشجاعة وإرادة مستقلة أولاً، حاسرةً الرأس وواثقة بذاتها وبالمجتمع، دون أن تتحكّم بفعلها وإرادتها هواجس رقيب أو أوهام حسيب.