العبور إلى التوازن الإستراتيجي..

حجم الخط

بإطلاقها الصاروخ الأخير بعد "التهدئة - الهدنة" ووقف إطلاق النار التالي بين كتائب المقاومة الفلسطينية في غزة وجيش الاحتلال، يكون النضال الوطني قد عبر إلى مرحلة جديدة غير مسبوقة في تاريخ الشعب الفلسطيني، متجاوزا مرحلة الدفاع الإستراتيجي المستمرة منذ النكبة حتى يومنا هذا.

وأخذا بخبرة كفاح الشعب الفلسطيني، وما أفرزته نضالات الشعوب وحروب التحرير الوطني من دروس، فإن مرحلة الدفاع الإستراتيجي ترتقي إلى طور جديد حين تتمكن قوى المقاومة في حرب التحرير من الانتقال من معارك الهجوم المباغت والاختفاء، وترك العدو في حالة من القلق الدائم والإرهاق والنزف الأمني والاقتصادي والسياسي والمعنوي المستمر، إلى القدرة على الثبات في مواقع جغرافية وعسكرية قابلة للدفاع عنها من جانب، ومن جانب آخر حرمان العدو من شن حروبه الخاطفة وخوضها على أرض الغير وإفقاده استقرار وحصانة جبهته الداخلية ووحدتها وروحها المعنوية.

ولئن نزعت المقاومة الفلسطينية بعد حرب حزيران عام 1967، إلى تنفيذ عمليات بطولية في العمق "كمطار اللد وسينما حين وعملية سوفوي ودلال المغربي" وغيرها، إلا أن حزب الله بعد خروج قوات الثورة من بيروت عام 1982، وترسيخ قواعده ووجوده في جنوب لبنان تمكن على نحو صريح وبارع من إنهاء احتكار العدو في شن حروبه الخاطفة على أرض الغير، وتمكن مقاتلو الحزب من الشروع في تقويض المسلمات الأمنية لدولة الاحتلال، وإثباط سياسة الردع باستدخال معادلة الرعب المتبادل وتوازن الردع وبخاصة عقب انتصاره المبين في حرب تموز عام 2006.
وإذ كشفت كتائب المقاومة الفلسطينية في قطاع غزة، بعد حصاره الذي ابتدأ فبل ثمانية أعوام، في الحروب التي شنها على التوالي جيش الاحتلال عام 2008 وعام 2009 وعام 2012، عن قدراتها الحربية المتنامية التي كانت كفيلة بفرض درجة من توازن الرعب والردع المتبادل على جانبي الحدود، فباتت نظرية الردع وحروب المحتل الخاطفة على أرض غزة من الماضي الذي لن يعود، فإن خطف المجندين الثلاثة من المستوطنين داخل مستوطنة "عتصيون" وإخفاءهم في محافظة الخليل، وعجز جيش الاحتلال وأجهزته الأمنية وأذرعها المتنوعة في الضفة الغربية عن حل ألغاز هذه العملية حتى الآن، قد مسّ عصب الأمن للدولة والجيش والمجتمع، الذي وفر الحصانه المعنوية والنفسية لأفراده والبيئة الجاذبة للهجرة اليهودية منذ قيام دولة الاحتلال.

وما انفلات إرهاب الدولة ومستوطنيها وهدم البيوت وحملات الاعتقالات العشوائية والعقوبات الجماعية في الضفة الغربية وصولا لإحراق الفتى أبو خضير حيّا، إلا الانعكاس المباشر لحالة الهستيريا والتصدع السياسي والأيديولوجي والغطرسة والتعنت في حكومة ودولة الاحتلال ومؤسساتها، الذي وصل إلى اقتراف المحرقة في الشجاعية وجرائم وحرب الإبادة في القطاع الصامد على مرأى ومسمع العالم والضرب عرض الحائط بالقانون الدولي والإنساني تحت شعار أجوف لا ينطلي على أي ذي عقل اوضمير، اسمه " الدفاع عن النفس".
ويكاد يجمع المراقبون والمعلقون العسكريون والسياسيون، على أن ما يسمى بعملية "الجرف الصامد" التي تحولت الى "الجرف الخائر والحائر" على أيدي أبناء غزة وأبطال كتائب المقاومة المسلحة، كانت حربا وحشية تفتقر إلى الكفاءة والجاهزية الاستخبارية المطلوبة، فاجأت الجيش وقادته الذين ظنوا أنهم يباغتون المقاومة وكتائبها، فباغتتهم وفاجأتهم بمدى صواريخها التي وصلت إلى نهاريا شمالا وبئر السبع جنوبا، مرورا بتل أبيب وحيفا، وأدخلت ملايين السكان إلى الملاجئ، وبمدى جاهزيتها المادية والمعنوية وكفاءتها الحربية ما ألحق الخسائر المؤلمة بأفراد وضباط الجيش وأسلحته وأجهزته المتطورة، وأشعل الرأي العام العالمي ضد الفاشية الصاعدة في فلسطين.

وما من شك في أن التغيير المستمرعلى لسان قادة الاحتلال وجيشه لإعلانات أهداف العدوان وحرب الإبادة كلما اشتدت المقاومة وزادت خسائر المحتلين، من القضاء على حماس وقادتها وصواريخ غزة إلى الحد منها وعودة الهدوء، نزولا للاكتفاء بما أسموه تهديم الأنفاق، لن يخفي الهدف الحقيقي للاحتلال بالقضاء على المقاومة وجودا وثقافة ونهجا وتعميم ثقافة التطبيع والتنسيق الأمني وترهيب وتركيع الشعب وفرض سياسة الأمر الواقع بتصفية القضية الفلسطينية.

وما قبول قادة الاحتلال بالمبادرة المصرية رغم الجانب التكتيكي في هذا القبول، سوى باكورة الإذعان للتغير الناشئ في موازين القوى، والواقع القائم في غزة برسوخ وتجذر قاعدة وبنية المقاومة المسلحة على الأرض الفلسطينية لأول مرة في تاريخنا النضالي، وبزوغ عناصر ومكونات التوازن الاستراتيجي بمفهومه الواسع والشامل.

هذا التوازن الاستراتيجي المؤقت ولكنه القابل للاستدامة والتطور وانتزاع الانتصار، اذا ما تمسكت القوى الوطنية السياسية والاجتماعية بنهج المقاومة وإستراتيجية وطنية موحدة، وتحررت القيادة الفلسطينية من أوهام الرهان على الوعود الأميركية ومفاوضاتها وحلولها الثنائية والالتزامات السياسية والأمنية والاقتصادية، واستبدلتها بالتمسك بعقد المؤتمر الدولي لتوفير الحماية الدولية المؤقتة لشعبنا وتنفيذ قرارات الأمم المتحدة ذات الصلة بما فيها تصفية الاحتلال عن أراضي الدولة الفلسطينية، وعاصمتها القدس العضو المراقب في الجمعية العامة للأمم المتحدة، وإذا ما شرع الجميع في ترتيب البيت الفلسطيني واستعادة الوحدة والشراكة الوطنية ومكانة منظمة التحرير الفلسطينية بتحالفاتها العربية والدولية، بوصفها الطليعة النضالية لشعبنا وممثله الشرعي الوحيد في كافة أماكن تواجده على أساس برنامج الإجماع الوطني، برنامج العودة وتقرير المصير والدولة الفلسطينية كاملة السيادة وعاصمتها القدس.