لشعبنا حقوق لا حاجات

حجم الخط

بعد الانجازات الميدانية النوعية التي حققها شعب فلسطين ومقاومته الباسلة خلال شهر من المواجهة مع حرب المجازر الصهيونية الهمجية على قطاع غزة، ثمة أهمية استثنائية لمنع الاجهاض السياسي لهذه الانجازات المعمدة بدماء أكثر من 2000 شهيد وعشرة آلاف جريح، جلهم من الأطفال والنساء وكبار السن، وعذابات تدمير البنية التحتية لقطاع غزة، وتشريد نحو نصف مليون مواطن، ومسح أكثر من عشرة آلاف منزل، وتحويل أحياء سكنية بأكملها إلى أثر بعد عين. هنا، لئن كان مهماً الصمود أمام مطالب حكومة نتنياهو التعجيزية في مفاوضات القاهرة، فإن الأهم هو كشف منطلقاتها الفكرية السياسية. أما لماذا؟
مطالب "الهدوء مقابل الهدوء"، و"رفع الحصار مقابل نزع سلاح المقاومة"، و"حاجات إسرائيل الأمنية مقابل الحاجات الإنسانية لغزة"، هي مجرد روافع تفاوضية لسياسة إسرائيلية عدوانية توسعية يحركها ويتحكم بها فكر صهيوني عنصري لا يرى في الفلسطينيين شعباً يعيش تحت الاحتلال ويكافح لنيل حقوقه الوطنية المغتصبة في العودة والحرية والاستقلال، إنما "مجموعات سكانية غير يهودية تعيش على أرض دولة إسرائيل اليهودية وتحت سيادتها"، يكفي لحل مشاكلها تلبية حاجاتها الانسانية تبعاً لـ"حسن سلوكها" المساوي لتخليها عن حقها في المقاومة ثقافة وبنية وأدوات فعل. لكن صلف حكومة المستوطنين الصهيونية، سياسياً وميدانياً، رفع الوحدة الفلسطينية إلى مستوى غير مسبوق منذ وقوع الانقسام الداخلي. أما كيف؟
في نهاية نيسان الماضي بلغت أزمة خيار التفاوض المباشر برعاية أميركية منتهاها، وأيقن الجميع، بمن فيهم قيادة "فتح"، بأن حكومة الاحتلال تبغي، بدعم أميركي، فرض شروطها الصهيونية لتصفية القضية الفلسطينية باسم تسويتها. وبموازاة ذلك، بلغت أزمة الانقسام الداخلي ذروتها، وأيقن الجميع، بمن فيهم قيادة "حماس"، بأن من الصعوبة بمكان استمرار الحال على ما هو عليه. هنا، وعوض أن تبادر قيادتا "فتح" و"حماس" إلى معالجة جوهر أزمة الانقسام، التي تحولت إلى مأزق وطني فلسطيني متعدد الأوجه والأبعاد، يحتاج الخروج منه إلى مراجعة سياسية شاملة تشارك فيها أطراف الحركة الوطنية الفلسطينية كافة، جرى الاكتفاء بخطوة تشكيل حكومة توافق وطني، ظلت، على أهميتها، شكلية، وبلا برنامج سياسي موحد يحميها من التراجع، ويمدها بدعم شعبي واسع، ويسلحها بعوامل القوة اللازمة لمواجهة هجوم حكومة الاحتلال عليها، ويحولها إلى خطوة جادة على طريق إعادة بناء وتوحيد وتفعيل الإطار الوطني الجامع، منظمة التحرير الفلسطينية، كممثل شرعي وحيد للشعب الفلسطيني في الوطن والشتات. بل ويوفر للقضية الفلسطينية كل عوامل الحماية من تدخلات المحاور الإقليمية والعربية وتجاذباتها القاتلة، ويعيدها إلى ما يجب أن تبقى عليه: أعدل قضايا العالم التي تُوظِّف ولا تُوظَّف.
لكن، رغم اختزال مقتضيات استعادة الوحدة في خطوة تشكيل حكومة توافق وطني لـ"السلطة الفلسطينية" المحدودة والمقيدة، ورغم نيل هذه الحكومة اعترافا أوروبيا مشروطاً بالتزامها بتعاقد أوسلو سياسياً واقتصادياً وأمنياً، ورغم إعلان الولايات المتحدة نيتها التعامل معها بالشروط الأوروبية ذاتها، ورغم تأكيدات أن برنامجها هو برنامج قيادة منظمة التحرير الفلسطينية، ورئيسها، رئيس دولة فلسطين، أبو مازن، الذي خولته قيادة "حماس" إدارة ملف المفاوضات، إلا أن حكومة المستوطنين الصهيونية بقيادة نتنياهو لم تستوعب مجرد الحديث عن انهاء الانقسام الفلسطيني الداخلي، حيث شنت حملة سياسية ودبلوماسية وإعلامية هستيرية ممنهجة ضد هذه الحكومة، وأعلنت تعليق المفاوضات المتوقفة أصلاً، وهددت السلطة الفلسطينية بالخنق المالي، وتخفيض مستويات التعامل والتنسيق، باستثناء "التنسيق الأمني". بل، واتخذت من حادثة اختفاء ومقتل ثلاثة مستوطنين ذريعة لشن حرب مبيتة، في صلب أهدافها إجهاض المقدمات المتعثرة لإنهاء الانقسام الفلسطيني. حرب بدأت بحملة استباحة شاملة لمدن وقرى ومخيمات الضفة كافة، وإمطار قطاع غزة من بيت حانون شمالاً إلى رفح جنوباً بعشرات آلاف القذائف من الجو والبحر والبر، وصولاً إلى توسيعها بهجوم بري فاشل، ضاعف ما ارتكبه الصهاينة في حربهم من مجازر بحق الشعب الفلسطيني الذي تسلح بخيار الوحدة والمقاومة لإفشال الأهداف الفعلية لهذه الحرب المتمثلة في منع استعادة الوحدة، وضرب المقاومة الفلسطينية بمشاربها الفكرية والسياسية كافة، بما يخدم تكريس الاحتلال، وتحسين شروط مخططه الراهن: سلخ القدس وتهويدها، واستيطان الضفة وتمزيقها، وفصلها عن قطاع غزة، على طريق تصفية القضية الفلسطينية.
لذلك، فإنه لئن كان مهماً الإصرار على تلبية مطالب الوفد الفلسطيني الموحد المتمثلة-أساساً- برفع الحصار عن قطاع غزة، ووقف حرب المجازر عليه، كمهمة عاجلة لا تحتمل التأجيل، فإن الأهم هو عدم تكبيل هذا الانجاز بالتزامات، صريحة أو ضمنية، تخدم مخطط فصل غزة عن الضفة، وتقيد مشاركتها في المقاومة لدحر الاحتلال، كمهمة وطنية فلسطينية مباشرة في مهمات النضال الوطني الفلسطيني، وفي مقدمتها حق اللاجئين في العودة والتعويض وفقاً للقرار الدولي 194. ما يعني أن ما بعد حرب المجازر الصهيونية على قطاع غزة يجب أن ينعكس في السياسة الفلسطينية، سواء لناحية تخليص قطاع غزة من الحصار، أو لناحية، وهنا الأهم، عدم العودة إلى سياسة ما قبل الحرب التي قادت إلى الانقسام، وثبت عجزها عن انجاز ولو الحد الأدنى من الحقوق الوطنية في الحرية والاستقلال والعودة. لقد توحد الشعب الفلسطيني وصمد صموداً أسطورياً وحقق انجازاً ميدانياً معمد بشلالات من الدماء، والتف حول مقاومته الباسلة واحتضنها لمواجهة حرب الإبادة الصهيونية، كما لم يحصل منذ وقوع الانقسام الداخلي المدمر، ناقلاً بذلك وحدة "حكومة التوافق الوطني" الشكلية المتعثرة، التي تشكلت، عشية الحرب بلا أساس سياسي، إلى وحدة فعلية حول خيار المقاومة القادر دون غيره على تحصيل الانجازات السياسية الوطنية، وعلى اسقاط مخطط تكريس الاحتلال مقابل تحسين شروط المعيشة وتوفير "حاجات انسانية" لهذه "المجموعة السكانية الفلسطينية" أو تلك التي "يحكمها" هذا الفصيل الفلسطيني أو ذاك بفئوية وتفرد، وبلا سلطة فعلية، وفي ظل استباحات احتلالية شاملة، والتزامات سياسية واقتصادية وأمنية ثقيلة. ما يعني أن شعب فلسطين بتضحياته الجسيمة الغالية، وبشلال دماء أطفاله الذي سال مدراراً في قطاع غزة على مدار شهر من الزمان، وبإسناد من الضفة والقدس ومناطق 48 والشتات، قد أعاد الأمور إلى نصابها، وأثبت مرة أخرى أن وطنيته نبع لا ينضب، وأن جرائم الاحتلال لم تضعف عزيمته، بل زادته تشبثاً بحقوقه الوطنية الشرعية والمشروعة، وأن انقسامات نخبه القيادية المدمرة لم تنل من حسه الجماعي المرهف ووعيه الوطني الراسخ وذاكرته الجمعية المثقلة بنحو قرن من جرائم حروب برابرة العصر الصهاينة وفظاعات ارتكابهم للتطهير العرقي المخطط والإبادة الجماعية الممنهجة، ما يوجب تسريع خطى العمل على مثول هؤلاء الفاشيين أمام محكمة الجنايات الدولية، لينالوا عقابهم كمجرمي حرب، وعلى توسيع الحملات الدولية لمقاطعة كيانهم العنصري، وتعظيم عزلته، سياسياً واقتصاديا وثقافياً.
قصارى القول: بإفشال أهداف حرب المجازر الصهيونية، حقق الشعب الفلسطيني ومقاومته الباسلة انجازاً ميدانياً عظيماً، فتح أفقاً سياسياً جديداً ونوعياً، سواء لجهة إدارة الصراع مع العدو الذي يرفض، برعاية أميركية، كل أشكال التسويات السياسية المتوازنة، فما بالك بالعادلة، أو لجهة إدارة الخلافات والاختلافات والتباينات داخل أطراف الحركة الوطنية الفلسطينية بمشاربها الفكرية والسياسية المختلفة، أو لجهة إدارة معركة الرأي العام العالمي وكسبه لمصلحة الشعب الفلسطيني وقضيته وحقوقه ومقاومته الوطنية. بكلمات محددة، لئن كان مهماً إفشال أهداف حرب المجازر الصهيونية في الميدان، فإن الأهم هو تطوير هذا الانجاز إلى إستراتيجية سياسة وطنية فلسطينية جديدة، تقطع إلى غير رجعة مع السياسة السابقة عليه، بشقيها الداخلي والخارجي، بما يؤكد لقادة العدو، وللعالم أجمع، أن الفلسطينيين ليسو "مجموعات سكانية" يكفيها تلبية حاجاتها الإنسانية، بل شعب له حقوق سياسية وطنية وتاريخية مغتصبة يجب استردادها.