زمن "إسرائيل القلعة" ولّى

حجم الخط

مثلما أنه ليس بإمكان المقاومة الفلسطينية، (كأي مقاومة شعبية مسلحة دفاعية أخرى)، أن تحقق النصر الحاسم بالضربة القاضية، إنما بالنقاط طال الزمان أو قَصُر، فإنه ليس بإمكان جيش الاحتلال الصهيوني، (كأي جيش نظامي احتلالي آخر)، أن يردع المقاومة الفلسطينية، أو أن يمنع تطورها ثقافة وبنية وأشكالاً وخياراً. ضمن هذا القانون العام دارت المعركة القائمة في قطاع غزة، ككل معارك الحرب المفتوحة بين المقاومة الفلسطينية وجيش الاحتلال الصهيوني.
لذلك، فإنه، مثلما أن المقاومة الفلسطينية لم تحقق، (حتى الآن)، نصرها الحاسم، ولو في حدود إجبار إسرائيل على الانسحاب الشامل الكامل ودون قيد أو شرط إلى حدود الرابع من حزيران 1967، فإن إسرائيل صاحبة أقوى جيش في المنطقة لم يكسر إرادة الشعب الفلسطيني وشوكة مقاومته الدفاعية المتواصلة، بل ولم يقطع سياق تطورها، كماً ونوعاً، شكلاً ومضموناً، لدرجة أن تصبح في أكثر من محطة، وذروتها المواجهة المتواصلة في قطاع غزة، نداً عنيداً لجيش يملك ترسانة تسليحية هائلة وتقنية فائقة التطور، وفي سجله انتصارات خاطفة مبهرة، وقيل عنه يوماً إنه "الجيش الذي لا يقهر".
وأكثر من ذلك، فإنه، لئن كانت محطتا حرب الاستنزاف على الجبهة المصرية، (آذار 1969-أيلول 1970)، وعبور الجيشين المصري والسوري في حرب العام 1973، قد أنهتا حلم أيديولوجية "إسرائيل الكبرى"، عبر تخليها عن سيناء، وإن في إطار صفقة كامب ديفيد، فإن نجاح المقاومة الوطنية اللبنانية في طرد الجيش الإسرائيلي دون قيد أو شرط من جنوب لبنان، العام 2000، وفي هزيمته، باعتراف قادته، العام 2006، قد فتح باب إنهاء حلم أيديولوجية "إسرائيل القلعة العصية على الهزائم"، ذلك رغم تشكيك كثيرين في هذا الاستخلاص الكبير الذي صاغه قائد المقاومة اللبنانية، السيد حسن نصر الله، ببلاغة القول: "إسرائيل أوهن من بيت العنكبوت".
لذلك، ومع عدم الاستخفاف بقوة إسرائيل بالمعنى الشامل للكلمة، وبمستوييها الداخلي والخارجي، فإن إسرائيل لم تعد هي ذاتها، سواء لجهة عجزها عن إملاء شروطها بانتصارات ميدانية حاسمة واضحة، أو لجهة عدم قدرتها على منع ارتداد حروبها العدوانية إلى بطنها الرخوة، (جبهتها الداخلية)، أو لجهة عدم قدرتها على تحقيق الردع بالقتال البري، وتعويضه برفع عنصريتها إلى درجة الفاشية، وارتكاب المجازر بحق المدنيين، بمن فيهم الأطفال والنساء والمسنون، الأمر الذي سوف يقود، تقدم الأمر أو تأخر، إلى تجريد إسرائيل من مكانة " الدولة المدلَّلة"، أي إنهاء شذوذ بقائها دولة مارقة فوق القانون الدولي. ولعل هذا واحد من أهم أوجه خسائر إسرائيل جراء إمعانها في حرب المجازر المتواصلة على الشعب الفلسطيني في قطاع غزة. كيف؟
في نهاية الشهر الأول من هذه الحرب أوقف جيش الاحتلال هجومه البري المحدود، ولم يقوَ على توسيعه وتعميقه لتسجيل نصر ميداني حاسم واضح، يتيح لحكومة نتنياهو إملاء شروطها التفاوضية لوقف النار. لكن فائض فاشية هذه الحكومة وعنجهيتها منعتها من التسليم بالفشل، ودفعتها إلى وقْف التفاوض وتصعيد عدوانها، وارتكاب المزيد من جرائم الحرب الموصوفة، ظناً أن ذلك سوف يكسر إرادة الشعب الفلسطيني ويجبر مقاومته الباسلة على القبول بواحد من ثلاثة شروط تعجيزية مختلفة مظهراً متطابقة جوهراً، هي: إما "رفع الحصار مقابل نزع سلاح المقاومة"، أو "الهدوء مقابل الهدوء،" أو "حاجات إسرائيل الأمنية مقابل حاجات غزة الإنسانية".
هنا تناست حكومة المستوطنين بقيادة نتنياهو حقيقة أنه يصعب، بل يستحيل، تحقيق أي من شروطها، دون إطالة أمد الحرب وتوسيع نطاقها وتعميقه إلى حدود اجتياح بري شامل كامل لقطاع غزة. وهو الخيار الذي، وإن كان بإمكان جيشها القيام به، إلا أن قيادته السياسية والعسكرية والأمنية، تحجم عن الذهاب إليه منذ سنوات، بل وتخشاه خشية البشر من الطاعون، بدلالة التقدير الكارثي الذي قدمته هيئة أركانه للمجلس الوزاري المصغر، ما يعني أن تهديدات نتنياهو ويعالون وغانتس بالعودة إلى الهجوم البري هي مجرد تهويل لفرض شروطهم التفاوضية وأهدافهم السياسية، وفي مقدمتها فرض تفاهمات "تهدئة"، تكرس حصار قطاع غزة وفصله عن الضفة، إدارة وسياسة ومقاومة ومصيراً. ماذا يعني كل الكلام أعلاه؟
إن إخفاق الجيش الإسرائيلي في حربه الهمجية على قطاع غزة لا يعكس مجرد فشل لنتنياهو ويعالون وغانتس، كما يحلو لمعارضيهم ومنافسيهم القول، بل هو برهان جديد على أن قوة إسرائيل كنظام عسكري أمني لم تعد هي ذاتها، وعلى أن زمن أحلام "إسرائيل الكبرى"، و"إسرائيل القلعة المنيعة"، و"إسرائيل المارقة المدللة"، قد ولى إلى غير رجعة. نقول هذا رغم أن حرب المجازر الصهيونية الوحشية على قطاع غزة لن تكون الأخيرة، ورغم أن قادة إسرائيل الفاشيين لم يتوقفوا، ولن يتوقفوا، عن ارتكاب المزيد من المجازر في المستقبل القريب والبعيد، ورغم أن إدارة أوباما، ككل الإدارات الأميركية السابقة، بنفوذها متعدد المجالات، إقليمياً ودولياً، لم تكف، ولن تكف، عن دعم هذه الجرائم ورعايتها، بذريعة "حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها"، وكأنها ليست من بدأ هذه الحرب الوحشية المبيتة، أو كأن عنجهية قادتها ليست المسؤولة عن إيصال عشرين عاماً من المفاوضات لتسوية الصراع إلى طريق مسدود، أو كأن استباحتهم الشاملة لكل ما هو فلسطيني ليست المسؤولة عن بلوغ غليان مرجل الشعب الفلسطيني درجة الانفجار، بل وكأن عداء الإدارات الأميركية المتعاقبة للشعب الفلسطيني وحقوقه وقضيته الوطنية، ليس المسؤول عن تشجيع قادة إسرائيل على مواصلة ارتكاب جرائم الإبادة الجماعية الممنهجة والتطهير العرقي المخطط، وعن الحيلولة دون مثولهم، كمجرمي حرب، أمام المحاكم الدولية. لكن كل هذا، ومعه عجز النظام الرسمي العربي عن تقديم اسناد فعلي، ولو في حدوده السياسية والمالية، للشعب الفلسطيني ومقاومته الباسلة، لن يغير من حقيقة أن قوة إسرائيل بمعناها الشامل لم تعد هي ذاتها. خذوا على سبيل المثال لا الحصر:
كيف لعاقل أن يصدق أن بإمكان جيش إسرائيل الذي عجز عن تسجيل نصر ميداني حاسم واضح في مواجهة مقاومة فلسطينية محاصرة براً وجواً وبحراً، أن يحقق مثل هذا النصر في مواجهة المقاومة الوطنية اللبنانية التي تمتلك قوة عسكرية هائلة، عمادها ترسانة صاروخية نوعية، متعددة الأنواع، وفائقة الدقة في قدرتها على إصابة الهدف، ويعترف قادة إسرائيل أن ما يجهلونه عنها أعظم مما يعرفونه؟! وبالمثل كيف لعاقل أن يصدق أن بإمكان جيش إسرائيل الذي يعجز عن تسجيل نصر ميداني حاسم واضح لا لبس فيه في قطاع غزة، أن يسجل مثل هذا النصر على إيران في حرب ما انفك نتنياهو يدعو إليها، ويدعي قدرة جيشه على شنها وكسبها؟!
قصارى القول: كثيرة هي دروس إخفاق الجيش الإسرائيلي في تسجيل نصر ميداني حاسم وواضح في حربه البربرية على الشعب الفلسطيني ومقاومته الباسلة في قطاع غزة، لكن بين أهم هذه الدروس هو أن إسرائيل لم تعد "الدولة القلعة العصية على الهزيمة". ذلك خلافاً لما يشيعه أشد قادتها أيديولوجية، أي انفصالاً عن الواقع، ولما يشيعه أشد حكام العرب ضعفاً وفساداً وتبعية للسياسية الأميركية، لتغطية عجزهم، وتبرير تخليهم عن واجبهم القومي، وتمسكهم بخيار التفاوض المباشر تحت الرعاية الأميركية لتحقيق تسوية "الأرض مقابل السلام"، وهو الخيار الذي لم يستعد أرضاً، ولا جلب سلاماً، رغم مرور 25 عاماً على انعقاد "مؤتمر مدريد" الذي أطلق هذا الخيار، وعمم نهج مقولات: "آخر الحروب"، و"وجوب تجاوز الأسباب النفسية للصراع"، و"99% من أوراق الحل بيد الولايات المتحدة"، بينما أثبتت التجربة العملية على مدار عقود، أن 99% من أسباب استمرار حروب إسرائيل أميركية"، وأن "99% من أسباب فشل التسوية السياسية للصراع أميركية" أيضاً، بل وأن 99% من المسؤولية عن المجازر الصهيونية أميركية"، سواء بحق الشعب الفلسطيني، أو بحق شعوب عربية أخرى، في مقدمتها الشعب اللبناني.