فتح رسالة مهمة لكن

حجم الخط

في المفاوضات السرية التي سبقت إبرام "اتفاق أوسلو" قبل 21 عاماً أصر قادة الكيان الصهيوني على تقسيم هذا الاتفاق لحل الصراع إلى مرحلتين "انتقالية" و"نهائية"، ذلك بذريعة أنه من الصعب إيجاد حل لجميع قضايا الصراع دفعة واحدة، وأنه لا بد من مرحلة انتقالية لبناء الثقة بخيار التفاوض وقدرته على إيجاد حل للخلاف حول القضايا الجوهرية، "قضايا الوضع النهائي"، (اللاجئون والقدس والحدود والمستوطنات والمياه)، وإنهاء الصراع في مدة أقصاها خمس سنوات تبدأ من تاريخ إبرام الاتفاق، سبتمبر/ أيلول ،1993 وتنتهي في مايو/ أيار 1993 . آنذاك لم تنطلِ ذريعة قادة الاحتلال هذه لا على معارضي اتفاق أوسلو من الحركة الوطنية الفلسطينية، ولا على المتحفظين عليه، بل ولا حتى على اتجاه داخل الأطراف التي أيدته، بما فيها حركة "فتح"، كبرى الفصائل الفلسطينية، والقائد الفعلي لمنظمة التحرير الفلسطينية التي تم توقيع الاتفاق باسمها، وأدارت المفاوضات على أساسه .
لكن - من أسف - يبدو أن تطبيق قادة الاحتلال لما أرادوا تطبيقه من بنود "المرحلة الانتقالية" قد شجع مركز القرار في قيادة منظمة التحرير على المضي قدماً في المفاوضات، إلى جانب الرهان على أن الولايات المتحدة كراعٍ للمفاوضات، تريد فعلاً تنفيذ وعودها في التوصل إلى تسوية لإنهاء الصراع وفق مقاربة "الأرض مقابل السلام"، التي انعقد مؤتمر مدريد، ،1991 على أساسها، وأنها، أي الولايات المتحدة، لا بد ستبادر إلى الضغط على قادة الاحتلال بصورة تجبرهم على تليين مواقفهم ولو في حدود القبول بإقامة دولة فلسطينية مستقلة وعاصمتها "القدس الشرقية" على حدود الرابع من يونيو/ حزيران 1967 .
ظل هذا الرهان موضع قبول حتى لدى أطراف سياسية وأوساط مجتمعية فلسطينية وازنة تحفظت على "اتفاق أوسلو" من على قاعدة أو منطق المأثور الشعبي الفلسطيني القائل: "لاحق العيار إلى باب الدار" . لكن الأمر بدأ ينقلب رأساً على عقب بحلول مايو/ أيار ،1999 نهاية الموعد المُحدد لإنهاء التفاوض حول "قضايا الوضع النهائي"، من دون إجراء تفاوض جدي حولها، بل ومن دون أن تحرك الولايات المتحدة كراعٍ للمفاوضات ساكناً، باستثناء دعوة "الطرفين" إلى مفاوضات كامب ديفيد، ،2000 وتحميل الوفد الفلسطيني المفاوض، والرئيس الشهيد ياسر عرفات تحديداً، رغم قبوله بالتمديد الواقعي للمفاوضات، مسؤولية فشل المفاوضات ووصولها إلى طريق مسدود، ذلك فقط لأنه، أي عرفات، لم يرضخ لضغوط الإدارة الأمريكية برئاسة كلينتون آنذاك، ورفض التوقيع على صك الاستسلام الماثل في قبول تحويل ما تم تنفيذه من بنود "المرحلة الانتقالية"، مع اضافات كمية لا تمس جوهر مطالب قادة الاحتلال وشروطهم وأطماعهم الصهيونية، إلى حل نهائي للصراع .
بعد محطة مفاوضات "كامب ديفيد" المفصلية لجأ مركز القرار في منظمة التحرير بقيادة الرئيس الشهيد ياسر عرفات إلى ما يمكن تسميته بتكتيك التنصل من الالتزام الأمني لاتفاق أوسلو، أي تجاوز تعاقده السياسي واقعياً عبر تطوير الهبة الجماهيرية التي أعقبت زيارة شارون الاستفزازية للمسجد الأقصى في سبتمبر/ أيلول 2000 إلى انتفاضة شعبية، بادر قادة الاحتلال إلى إدماء موجتها الأولى بصورة لم تترك أمامها من خيار سوى التحول إلى جولة جديدة امتدت حتى العام 2004 من المواجهة العسكرية القاسية والبطولية في آن مع جيش الاحتلال الغاشم، لكن تضافر المفاعيل السلبية، بل المدمرة، لتعدد الأجندات الفلسطينية الناجمة عن الصراع الفئوي بين "فتح" و"حماس" على تمثيل الشعب الفلسطيني، مع الظروف الدولية والعربية ما بعد أحداث 11 سبتمبر/ أيلول 2001 وإعلان الولايات المتحدة "الحرب على الإرهاب" في المنطقة وصولاً إلى الاحتلال الأمريكي للعراق، ،2003 قاد إلى إبطال مفعول ذلك التكتيك السياسي الذي تحول إلى خيار شعبي كفاحي، بل إلى انتهاء المواجهة مع الاحتلال إلى اجتياح شامل للضفة، وبناء جدار فصل التوسع والضم، وصولاً إلى فك الارتباط العسكري والاستيطاني الأحادي مع قطاع غزة، ،2005 ثم جاءت خطيئة، بل كارثة، نشوب الاقتتال الداخلي وإقدام قيادة "حماس" على حسم "السلطة" السياسية في القطاع بوسائل عسكرية، ،2007 لتخدم بالنتيجة، أي بمعزل عن النوايا، هدف قادة الاحتلال الفعلي من وراء تقسيم الحل إلى مرحلتين، وإطالة أمد "الانتقالية" منها، وفك الارتباط الأحادي مع قطاع غزة، وهو، أي الهدف، ما لخص جوهره بوضوح ما بعده وضوح وزير حرب الاحتلال، يعالون، قبل اسبوعين في مقابلة مطولة مع صحيفة هآرتس بالقول: "لن تكون هنالك دولة في الضفة، بل حكم إداري ذاتي منزوع السلاح ومُسيطر عليه جواً وبراً . . . .نحن لا نبحث عن حل للصراع، وأبو مازن ليس شريكاً لحله، بل لإدارته . . ." . لماذا نسوق كل الكلام أعلاه الآن؟
في الأسبوع الماضي عقد "المجلس الثوري" لحركة "فتح"، كبرى الفصائل الفلسطينية، وقائد منظمة التحرير و"السلطة الفلسطينية"، اجتماعاً ناقش خلاله لأول مرة جدوى استمرار التقيد بالالتزامات السياسية والأمنية والاقتصادية ل"اتفاق أوسلو"، بعد مرور 21 عاماً على مفاوضاته العبثية بحصادها المر، ونتائجها الكارثية على الشعب الفلسطيني وقضيته وحقوقه الوطنية، وعلى ممثله الشرعي وإطاره الوطني الجامع وقائد كفاحه منظمة التحرير الفلسطينية وبرنامجها الوطني في العودة وتقرير المصير وبناء الدولة الفلسطينية المستقلة والسيدة وعاصمتها القدس . كانت خلاصة الاجتماع التلويح بتنصل حركة "فتح" من الالتزام الأمني لاتفاق أوسلو من خلال اتخاذ قرار يفوض اللجنة المركزية للحركة بوقف التنسيق الأمني، في حال فشل خطة قيادة منظمة التحرير الفلسطينية لإقامة دولة فلسطينية مستقلة وعاصمتها القدس على الأراضي التي تم احتلالها عام 1967 عبر مطالبة مجلس الأمن باتخاذ قرار يحدد سقفاً زمنياً لإنهاء الاحتلال . هنا قرار مهم ويبعث برسالة غير مسبوقة وغاية في الأهمية، لكنه لا يزال في إطار التلويح، ما يشي بأمل أن تتفهم الولايات المتحدة اضطرار القيادة الفلسطينية إلى التوجه إلى مجلس الأمن، ولو في حدود الامتناع عن التصويت، (عدم استخدام "الفيتو") . وهذا أمر مُستبعد، ما يعني أن هذا التلويح، على أهميته، يحتاج إلى توافر روافع سياسية غير قائمة، لعل أهمها: تهيئة الحاضنة الشعبية وتحشيدها لكل الاحتمالات، تطوير وحدة "حكومة التوافق" الشكلية إلى وحدة سياسية حقيقية، وإسناد رسمي عربي حقيقي يفوق ترجمات مقولة "نقبل بما يقبل به الأخوة الفلسطينيون" .