حرب غزة وموقعها في العقل الاسرائيلي..والعقل الفلسطيني

حجم الخط

مما لاشك فيه أن حرب "اسرائيل" على الشعب الفلسطيني في قطاع غزة, قد شكلت لحظة تاريخية بارزه في مسار الصراع مع العدو الصهيوني .... ذلك أن هذه الحرب التي امتدت واحد وخمسون يوماً لم تكن حرباً عادية أو مألوفه في شراستها وعنفوانها وهمجيتها... كانت حرباً استثنائيه وتتسم بالفراده عما سبقها من حروب..وتلك الفرادة لا تتعلق بهمجيتها وطول زمانها...إنما تتعلق ايضاً بالصمود الأسطوري لشعبنا الفلسطيني ومقاومته الباسلة لهذا العدوان..
وإذا كان هناك جبروت للعدو الصهيوني طال كل شئ من الحجر الى البشر...فالصحيح أيضاً أن استثنائية هذه الحرب تنطوي على الجبروت الفلسطيني في التصدي للجبروت الاسرائيلي دون خروج أو رفع راية بيضاء واحده على الحرب..دون صرخة مواطن واحد مهزوم.
تلك هي المعادلة التي حكمت الحرب...جبروت يقابله جبروت..عدوان يقابله صمود...وبمقاييس موازين القوى والمعطيات العسكرية والقدرات..فإنه لا مجال للمقارنه بين قدرات العدو الصهيوني وقدرات الشعب الفلسطيني ومقاومته..فثمة بون شاسع بين قدرات العدو وقدرات المقاومة لصالح الأول...وإذا ما تأملنا المشهد كاملاً خارج نطاق جغرافيا قطاع غزة.. وهو النطاق المحاصر والمحدود...سنجد أن الشعب الفلسطيني في قطاع غزة لم يكن يملك عمقاً جغرافياُ استراتيجياً ولا عمقاً سياسياً.. ولا توجد بيئه عربية ملائمه لصالح الشعب الفسطيني على العكس من ذلك كانت البيئه العربية والإقليمية والدولية مجافية الى أبعد الحدود...فكان الشعب الفلسطيني يسطر ملحمته لوحده باستثنائية غير معهوده...في مواجهة حرب عدوانية غير مسبوقه...الأمر الذي رسم مسبقاً حدود الصمود أو الانتصار بالمستحيل...بيد أن الاستثنائية الفلسطينية قد كسرت أجنحة المستحيل...واستعاد الشعب الفلسطيني العمق الاستراتيجي العربي المفقود...بعمق الإرادة الاستراتيجي ...وهنا اصبح المستحيل ممكناً عند الشعب الفلسطيني.
انتهت الحرب, وتموضعت القوى...وتكشفت مكاسب وخسائر كل طرف...وآن الوقت والضرورة للوقوف عن كثب على طبيعة هذه الحرب واسبابها ومجرياتها ونتائجها..وكيف أديرت اسرائيلياً...وكيف أديرت فلسطينياً.
• بدايةً لا بد من التأكيد بأن هذه الحرب على الشعب الفلسطيني لم تكن في سياق ردود الفعل الاسرائيلية على عملية للمقاومه الفلسطينية...أو خطف ثلاثة مستوطنين..."فهذا تسطيح وتبسيط وغياب وعي لطبيعة الكيان" إنما هذه الحرب كانت حرباً في سياق استراتيجيا وعقيدة الكيان الاسرائيلي...هي حرب مبيّته ومدبّره...لها أهدافها وغاياتها واستهدافاتها التاكتيكيه والاستراتيجيه...ولا يمكن قراءة نتائجها الميدانية على الأرض بمعزل عن "الرؤية الاستراتيجه لأهمية الحرب واستمراريتها على الشعب الفلسطيني في الفكر السياسي الصهيوني"...الأمر الذي يرسم السؤال المحوري...كيف أدار العدو هذه الحرب؟ وما هي طبيعة العقل السياسي الذي أدار هذه الحرب؟ هل هو عقل سياسي استراتيجي أم هو عقل سياسي عفوي مسكون باللحظة السياسية؟ وبالمقابل كيف أدار الفلسطيني دفاعه ومقاومته وصموده مع هذا العدوان البربري؟
مما لا شك فيه أن الاسرائيلي الذي أدار هذه الحرب هو عقل استراتيجي بالمعنى السياسي...لم يكن يريد نصراً آنياً على الشعب الفلسطيني...بقدر ما كان يريد نصراً استراتيجياً...وتحقيق خسائر استراتيجيه في الطرف الفلسطيني...وخسائر ممتدة سياسياً واقتصادياً واجتماعيا وزمانياً..وخسائر في الوعي والثقافة "كي الوعي" ..ذلك أن الخسائر الاستراتيجية في بنية الوعي لدى الفلسطيني أهم بكثير من الخسائر في البنى الاقتصادية التي يمكن معاودة بنائها...فخسائر الوعي تمتد من تسييد اليأس والإحباط إلى الإيمان باستحالة تحقيق الأهداف الى سقوط الهوية الوطنية...وعدمية المقاومة والكفاح...وصولاً الى أن "اسرائيل" حقيقة راسخة ولا أمل في زحزحة مكانها...!
هو ذاته الجنرال بعالون الذي أطلق مصطلح "كي الوعي الفلسطيني" قبل 12 عاماً أثناء الانتفاضة الثانية...لأجل إحداث عملية فكاك واعيه بين الشعب ومقاومته...وبين الشعب وإيمانه الوطني...وبين الشعب وقضيته الفلسطينية.
إنهم يستهدفون بكي الوعي هزيمة الروح الفلسطينية, ومن نافل القول أن استعادة الروح بعد هزيمتها عملية شاقة ومعقدة وطويلة الأمد...وهذا ما يسعى إليه الاحتلال من حربه على شعبنا في غزة..إنه يستهدف شعبنا في وعيه ووطنيته وثقافته وإيمانه حتى بعروبته...إنه يستهدف شعبنا في غزة قبل حماس وقبل أي فصيل.
• لقد استثمر العقل الاسرائيلي لحظة وزمن الانهيار العربي...وزمن التخريب العربي...وانشغال العالم العربي بنزاعاته الداخلية والتخريب البنيوي في البلدان العربية...وهنا العقل الاسرائيلي يحاكي الوجدان والعقل الفلسطيني بسؤاله "أين ظهيركم..لا أمل في أمتكم العربية...عليكم قبول الحل الاسرائيلي" لذلك العقل الاسرائيلي كان واعياً بأن ردود الأفعال العربية لن تكون بحال لصالح الطرف الفلسطيني إن لم تكن ضده...كذلك كان نتنياهو يتباهى بأنه يخوض حربه وله أصدقاء عرب من خلفه...!! إذن كان الرصاص الاسرائيلي موجهاً الى بنية الوعي الفلسطيني كما الجسد الفلسطيني...وكان يدرك أن الوعي الفلسطيني أثناء الحرب لن يصاب بأذى من البارود والدمار والقتل...لكنه سيصاب بالأذى والجروح بعد أن تنتهي الحرب ويستيقظ الفلسطيني على حجم المأساة والكارثة "ذهبت السكرة الوطنية وجاءت الفكرة"..؟؟
• على المستوى الإعلامي خاض الحرب مع الشعب الفلسطيني تحت يافطة الدفاع عن النفس "حرب دفاعية" باعتباره المعتدى عليه..وباعتباره الضحية...وهنا جند كل وسائله الإعلامية لإيهام الرأي العام العالمي بأنه يخوض حرباً دفاعية ضد الإرهاب الفلسطيني مستثمراً اختطاف المستوطنين الثلاثة وقتلهم.
وإيضاً على المستوى السياسي والاعلامي خاض العدو الصهيوني حربه على الشعب الفلسطيني تحت يافطة محاربة الإرهاب ممثلاً بحماس...أي أن حربه ليست عدواناً على الشعب الفلسطيني إنما هي حرباً على حماس الإرهابية...وهنا يتجلى العقل السياسي الذي يوازن بين الضرورة ومعطيات اللحظة..ضرورة محاربة الشعب الفلسطيني واستثمار معطيات السلوك الحمساوي أو الفصائلي..مستثمراً البيئة الدولية التي تنشد محاربة الإرهاب.
• وبالتوازي وأثناء الأيام الأولى للحرب كان يطالب بوقف إطلاق النار في الوقت الذي كانت دباباته وصواريخه وطائراته تدك كل مناطق القطاع قصفاً وتدميراً وقتلاً...محاولاً البرهنة على أن حربه هي من أجل وقف العدوان الفلسطيني الحمساوي...وفي السياق تعاطى مع الورقة المصرية بإيجابية شديدة من حيث الشكل دون أن أدنى التزام بمضمونها على الأرض...في الوقت الذي كان العقل السياسي الإعلامي الفلسطيني يتباهى ويفخر أن العدو هو الذي طالب بوقف إطلاق النار وليس الطرف الفلسطيني الذي كان يرفض وقف إطلاق النار مع العدو "من موقع المقتدر والقوي"
ولا يتوقف العقل السياسي الاستراتيجي الاسرائيلي عند كيفية إخراج سيناريو الحرب ودوافعها المعلنة...إنما كان يناقش ويحدد الآفاق السياسية لهذه الحرب...والآفاق المباشرة الميدانية التي تمثل البنية المجتمعية الفلسطينية وبنية المقاومة...
• ومن أهم أهداف هذه الحرب كان كسر الرفض الفلسطيني الشعبي والرسمي للتسوية السياسية بالمقاييس الاسرائيلية...وإجبار الطرف الفلسطيني موحداً على دخول حلبة المفاوضات والتسويات وإدخاله في لعبة الأمم ولعبة السياسة الإقليمية والدولية...ولعل في ذهاب الوفد الفلسطيني الموحد الى القاهرة للحوار مع الطرف الاسرائيلي غير المباشر...برهاناً على جرّ الفلسطيني بكلّيته الى الحوار يساراً ويميناً وإسلاماً على الحوار من وراء الجدران...هنا انكسر العناد الفلسطيني..وهنا سابقة التعوّد وأول الرقص...وربما هنا التسابق على التمثيل أمام الآخر...لكن هذا الوفد كان شكلياً في وحدته بكل المقاييس...أما الحوار التفاوضي الحقيقي كان يحدث من وراء الوفد الموحد...وطبخ وأعلن الاتفاق دون رأى الوفد الموحّد وبعد أن غادر الوفد القاهرة دون اتفاق...الأمر الذي يدلل على أن عشرون يوماً بالقاهره من الحوار مع القادة الاسرائيليين كان هدفاً بحد ذاته وليس سعياً للاتفاق...وإنما لكسر الوعي ومراكمة الخسائر المعنوبة...وهنا استكمال للخداع الاستراتيجي في اتفاق أوسلو أو الكمين الاستراتيجي التاريخي.
• وكما استطاع العقل الاسرائيلي السياسي أن يجرجر الطرف الفلسطيني بكل فصائله الى الحوار الغير مباشر معه وبوساطه مصرية...فإنه في الوقت ذاته حدد مسبقاً مضمون الحوار مع الطرف الفلسطيني...وهو حوار على الجزيئات والتفاصيل وليس على الأصل (الاحتلال)...أي الحوار على مظاهر الاحتلال وليس على إزالة الاحتلال...الأمر الذي جعل التفاوض في جوهره ليس إلا "مطالب حياتية" بدءاَ من الإعمار والميناء والمطار...إلخ...إلى حد أن بعض الأوراق المقدمة من حماس كانت تتحدث عن شرط قبول موظفي حماس في قطاع غزة من قبل حكومة الوفاق..!!
إذن العقل الاستراتيجي الاسرائيلي كان على وعي بالتراث الاسرائيلي السياسي في تجزئة القضية والحق الفلسطيني من حق كامل مثبت إلى مطالب وجزيئات ومن ثم تفاوض لعشرات السنين.
إن الأحداث المباشرة التي ناقشها العقل السياسي الاسرائيلي والتي تدخل في نطاق التكتيك الميداني والعسكري السياسي...فهي ليست محدودة إنما هي تحمل ذات البعد الاستراتيجي ولكنها مباشرة.
إن القاعدة التي تحكم هذه الحرب على الشعب الفلسطيني في غزة هي نفسها القاعدة التي حكمت الحرب عليها في عام (2008-2009-2012) وهي سياسة معتمدة في التعامل مع بنية المقاومة في غزة أو الضفة "سياسة جز العشب" التي تعني عدم السماح للمقاومة أن تراكم من قدراتها المادية والتسليحية...وإبقاء المقاومة في حالة ترميم ذاتها..وإبقاء الحالة الجماهيرية تعيش مداواة جراحها وتهجيرها فترة من الزمن...إن عدم السماح للمقاومة أو الحالة الجماهيرية أن تكون قادرة على إدارة حرب مع "اسرائيل" (مع الانتباه الى أن هذه الأهداف الاسرائيلية ليست بالضرورة ان تتحقق في الواقع...وهذا ماحصل في الحرب الأخيرة)... وفي المباشر تجريد حماس والجهاد والفصائل الأخرى من مخزونها التسليحي وضرب بنيتها العسكرية.
• وهنا العقل السياسي الاسرائيلي ينتبه الى أن البنية للمقاومة لا تتوقف على القدرات المادية والتسليحية...إنما تمتد الى البيئة الحاضنة...الأمر الذي يعني العودة الى العقيدة الاسرائيلية من جديد في التعامل مع الواقع الفلسطيني... وهي عقيدة الأرض المحروقة..والتدمير الشامل وتهجير السكان وتدمير الفضاء الحياتي للقطاع عدا عن قتل الأطفال.
• ثمة سؤال يرافق العدوان..لماذا قتل الاطفال؟...لماذا قتل ستمائة طفل وجرح المئات منهم؟...هل كان قتل الأطفال خطأ في الإحداثيات...ونتاج طبيعي لظروف الحرب...أم أن قتل الأطفال هي سياسة ممنهجة وواعية تطال الأجيال الجديدة في ذاكرتها ووعيها ونفسيتها؟..ولا يمكن عزل العقل الاسرائيلي في ممارساته اليوم عن العقل التلمودي الذي يقول في إحدى عباراته "اقتلوا أفضلهم في زمن الحرب" "واقتلوا من الأجانب أفضلهم" إن أفضلنا هو الجيل الجديد الذي سيحفظ بذاكرته هذه الحرب...ولكن العدوان يريد تخريب هذه الذاكرة وتحويلها الى أمراض نفسية وعقلية.
وفي هذه العقيدة والممارسة يتبدى الاستراتيجي في التاكتيك الميداني وهو إعادة أجواء النكبة الفلسطينية بكل تجلياتها الى الذاكرة والعقل السياسي الفلسطيني...وتنتصب المعادلة الصعبة أمام الفلسطيني...إما الموت وإما النزوح والهجرة...وهذا ما تم لاحقاً...إذ أن الهجرة الفلسطينية من قطاع غزة لم تكن إلا ثمرة هذه المعادلة...لا حياة مع المقاومة ولا حياة في غزة... واتوستراد الهجرة الغير شرعية مفتوح على مصراعيه.
وعليه فإن سؤال الهجرة..هو سؤال في إطار أدارة الصراع استراتيجياً مع الفلسطيني ولم تكن الهجرة القسرية نتاج عفوي لمجريات ونتائج الحرب...إنما هي استجابة موضوعية لحرب واعية على الوجود الفلسطيني.
إننا لا نتحدث عن سلوك فردي...إنما نتحدث عن ظاهرة سياسية لصيقة بالاستهدافات من وراء العدوان الاسرائيلي...ولصيقة بأزمات المنطقة التي طالت الوجود الفلسطيني.
على مدى عمر الكيان الصهيوني كانت العقيدة الصهيونية تستهدف الوجود الفلسطيني...وإجلائه عن أرضه واقتلاعه من جذوره الجغرافية لتنفيذ شعار (أرض بلا شعب لشعب بلا أرض) وقد ترجمت هذه العقيدة في ممارسات الطرد والتهجير والمجازر وبث الرعب والاستيطان...وفي هذا السياق كتب بيغن في مذكراته "لولا مجزرة دير ياسين لما قامت دولة اسرائيل" فهل غابت هذه العقيدة عن العقل السياسي الاسرائيلي في حرب غزة..؟ كل الدلائل تشير الى أن هذه السياسة التهجيرية مبيته ومخطط لها إقليمياً ودولياً وعربياً.
بالمقابل كيف أدار الفلسطيني معركته الدفاعية في مواجهة العدوان...
بعيداً عن قيم ومفردات الإدارة والشجاعة والإقدام والصمود والتضحيات التي رافقت مواجهة العدوان...والتي أضافت بعداً أخلاقياً وقيمياً على أدارة الصراع...وخلقت وجداناً عاطفياً أحاط الشعب الفلسطيني بأكمله...بعيداً عن كل ذلك يبقى السؤال الأهم...هل هناك عقل سياسي استراتيجي فلسطيني أدار الصراع باقتدار وبرؤية استراتيجية؟
في البداية تقتضي الضرورة توضيح أن الشعب الفلسطيني على مدار تجربته ونكبته وسيرورة معاناته كوّن ذهنية استراتيجية لفهمه ووعيه بطبيعة الصراع...وهذه الذهنية الاستراتيجية هي نتاج لوعيه المشترك والتراكم التاريخي والثقافي والنفسي والديني والقيمي...ومحصلة هذه الذهنية أن "فلسطين لنا.. ويجب أن تعود عبر نضال الأجيال" وكان المجتمع الفلسطيني ذات الشخصية المتعددة الأبعاد يعيد إنتاج هذه الذهنية والهوية الوطنية والثقافية الوطنية والأصالة العربية بوعي زماني ومكاني في إطار التراكم التاريخي والحقائق التاريخية...الأمر الذي وفر له شروط حضوره وبفاعلية على مسرح التاريخ العربي والعالمي.
في مقابل هذه الذهنية ثمة ذهنية سياسية مفارقة...ولا تستند الى إثبات وجودها الاستراتيجي بقدر ما تتعاطى مع الواقع السياسي بالقطاعي والعقل التفكيكي لمقومات الوجود الفلسطيني.
إذا كان الشعب الفلسطيني يمتلك هذه الذهنية الاستراتيجية فالحالة والضرورة والمنطق أن يدار صراعنا مع الاحتلال بعقل استراتيجي وأفق استراتيجي...يقول الاستراتيجي "كارل فون كلاوسفتز...إن التاكتيك يستخدم لتنظيم عملية قتال الوحدات العسكرية...وأما الاستراتيجية فهي القتال من أجل الحرب النهائية"...وهنا السؤال...ما هي العلاقة التي حكمت سير الحرب الأخيرة على الشعب الفلسطيني..علاقة التاكتيك بالاستراتيجيا..؟
في الواقع إن السياسي والدبلوماسي الفلسطيني كان خياره التاكتيكي السياسي والميداني هو محور إدارة الصراع وإدارة المعركة...حيث انحصر نشاط العقل السياسي والإعلامي أو الميداني في نطاق التاكتيك لكسب معركة عسكرية أو عملية عسكرية أو اختراق عسكري أو خطف جندي...إلخ..
من هنا كان هناك انفصام بين حضور الإرادة الطاغي في الميدان...وغياب التخطيط الاستراتيجي...! إن العقل الاستراتيجي كان يجب أن يجيب على السؤال التالي: ما هو الدور المناط بقطاع غزة في سياق مواجهتها للعدوان المتكرر من الاحتلال الاسرائيلي...هل الدور هو دور دفاعي تكتيكي أم دفاع استراتيجي...أم نحن أمام دور هجوم؟..وكل من الدفاع والهجوم له استحقاقاته على الأرض واستحقاقاته التكتيكية والسياسية والإعلامية والميدانية المتباينة.
في الواقع أديرت المعركة مع العدوان الاسرائيلي بعقليتين...عقلية سياسية برغماتية لا تمت الى الاستراتيجيا بشئ... تمثلها قيادة م.ت.ف والسلطة الفلسطينية وهي لا تملك الإرادة عن التعبير عن مكنون الاستراتيجيا...حيث ارتضت أن تكون مكوّن سياسي كما المكونات العربية في إطار اللعبة الإقليمية والدولية...تتجاذبها وتتقاذفها المواقف والرؤى الدولية والأوهام السياسية وأنصاف الحلول...وعليه لم تكن معنية بإدارة الصراع من موقع الاقتدار والتخطيط الاستراتيجي...بقدر ما كانت تمارس العلاقات السياسية العامة وأن تكون رقماً في المعادلة السياسية على هامش الصراع...فتحولت وظيفتها الى تخطئة الحرب...وقف الحرب...تحميل المسؤولية للآخر المنافس...تسخيف إطلاق الصواريخ في العمق الفلسطيني...تشويه الصمود أو الانتصار...إعلاء الحديث عن تكلفة الحرب على الشعب في غزة...الدوران في المحاور الإقليمية بحثاً عن حل..!!! وهنا يمكن القول أن القيادة لم تكن موجوده...وتالياً غياب العقل العربي.
هذه العقلية البرغماتية هي من أبقت الحراك الشعبي الفلسطيني في الضفة الغربية دون مستوى الحرب على غزة والمقاومة والصمود دون تثمير المعركة سياسياً...ومن وراء كل الفصائل...!!
أما العقل الآخر الذي مثلته حركة حماس والفصائل الأخرى...فقد أدارت المعركة بعقل شجاع وبإدارة قتالية عالية وبأفق تاكتيكي فئوي ميلشياوي...وغابت غرفة العمليات المشتركة...وقيادة الأركان الموحدة...وغاب التنسيق الميداني إلا بما ندر وعلى مستوى الأفراد والمجموعات دون رؤية واضحة للتنسيق وتبادل الأدوار...وفي الوقت الذي كانت حماس تعتبر نفسها هي السلطة وهي المرجعية ورائدة المقاومة والمتحكمة في مفاصل العمل المقاوم...لم تشرك الفصائل في أدارة المعركة ضمن الخطة الدفاعية ولم تعتبر نفسها مسؤولة عن الفصائل ميدانياً من حيث توفير المستلزمات التسليحية واللوجستية...وأدارت المعركة بعقل حمساوي صرف...ميدانياً وإعلامياً وسياسياً وأمنياً...وفسرت العدوان بأنه ضد حركة حماس ومقاومتها وليست ضد الشعب الفلسطيني...وهنا التساوق الغير مقصود مع دعاوي الاحتلال في محاربة "إرهاب حماس" ...وبالتوازي كيف أدارت حماس المعركة اجتماعياً..؟ هل اعتبرت نفسها مسؤولة عن الشعب الفلسطيني الذي رافق مقاومتها وساندها وعض على جراحه وعذاباته..؟ أم أحالت الأمر على سلطة فلسطينية تختلف معها...وعلى قوى إقليمية ودولية..؟ هل لجأت إلى علاج وطني لضحابا العدوان..أم علاج فئوي..؟ وبالتوازي أيضاً كيف أدارت المعركة سياسياً وإعلامياً....؟ وكيف تعاطت مع الورقة المصرية في البداية وإلى أي موقف انتهت..؟ وكيف طرحت مطالبها...وما هي الأولوية....(إزاحة الاحتلال..أم تحقيق المطالب "المعبر- والمطار- الميناء- الإعمار- رواتب الموظفين) ثمة فوضى سياسية ورؤيوية في إدارة الصراع...
خلاصة القول كنا أمام غياب العقل الاستراتيجي...وحضور برغماتي يفارق الاستراتيجية...ففي الوقت الذي كان الأجدر أن تدار المعركة وطنياً..كانت الفئوية تستفحل في إدارة المعركة..غاب العقل الوطني الجامع الذي يتسع ويستوعب كل التلاوين والتيارات والاتجاهات والتناقضات وتوظيفها في عملية الصراع والمعركة الدائرة.