الصراع ليس دينيا...لكن

حجم الخط

تكريس "إسرائيل دولة قومية للشعب اليهودي" هو جوهر مشروع "قانون القومية" الذي أقرته حكومة الاحتلال بقيادة نتنياهو لتعديل التعريف الذي وضعه بن غوريون لإسرائيل. 15 وزيرا صوتوا لمصلحة المشروع كما اقترحه نتنياهو، بينما عارضه 6 وزراء يطالبون بإجراء تعديلات عليه، ما يعني أن مصادقة "الكنيست" على هذا القانون أصبحت مسألة وقت، وإن بصيغة معدَّلة يجري التفاوض عليها لمنع انفراط الائتلاف الحكومي. هنا يجدر التشديد على أننا أمام تعديل جوهري يستهدف، بمعزل عن صيغته، الشعب الفلسطيني قضية ووجوداً ورواية وحقوقاً وطنية وتاريخية، حتى وإن تعلق في جانب من جوانبه بخلافات قديمة جديدة بين أجنحة الحركة الصهيونية وأحزابها المختلفة حول سؤال أيهما أولاً، أو أيهما الطاغي، "يهودية إسرائيل" أم "ديمقراطية إسرائيل"، كسؤال لا معنى له في واقع دولة احتلال استيطاني إقصائي احلالي أُرتكب لتأسيسها ثم لتوسُّعِها أبشع أشكال التطهير العرقي المُخطط وجرائم الحرب الموصوفة والإبادة الجماعية الممنهجة. أما لماذا؟
أولاً: هنا تعديل يعطي غطاء قانونياً للتمييز العنصري الواقعي متعدد الأشكال الذي يُرتكب بحق فلسطينيي 48، بل ويفتح باب طردهم وتهجيرهم قسراً بأشكال وطرائق وإجراءات شتى، منها سحب المواطنة بذريعة المس بـ"أمن إسرائيل" كما توعد نتنياهو مؤخراً، وتحويل صيغة "تبادل الأراضي" إلى "تبادل سكاني" كما يدعو منذ سنوات الفاشي ليبرمان الذي لا يعلن سوى ما تبطنه أغلبية مكونات الائتلاف الصهيوني الحاكم بقيادة نتنياهو. هنا يتضح أن قوننة "إسرائيل دولة الشعب اليهودي" تستهدف هوية فلسطينيي 48 ووجودهم، بتعبيراتهم الفكرية والسياسية الوطنية، سواء تلك التي تستفيد من المشاركة في "الكنيست" للمطالبة "بالسلام والمساواة"، أو بـ"إسرائيل دولة لكل مواطنيها"، أو تلك التي ترفض المشاركة في "الكنيست".
ثانياً: هنا تعديل يعادل تكريساً للضم الرسمي لـ"القدس الشرقية" بعد احتلالها في العام 1967، وامتدادا لقانون "توحيد القدس"، 1980، ارتباطاً بإجماع الأحزاب الصهيونية الأساسية على اعتبار "القدس الموحدة" "عاصمة إسرائيل الأبدية". بهذا يتضح المعنى السياسي لتزامن طرح "قانون القومية" مع الهجمة التهويدية غير المسبوقة على القدس لحسم معركتها أرضاً وسكانا ومقدسات.
ثالثاً: قوننة أن إسرائيل غير محددة الحدود هي "دولة الشعب اليهودي" تعادل قوننة الضم الواقعي لأجزاء واسعة من أراضي الضفة الغربية، وبالذات منطقة الأغوار، والكتل الاستيطانية الكبرى، وما التهمه جدار الضم والتوسع من أراضي، فضلا عن الأراضي التي تم الاستيلاء عليها لأغراض عسكرية. هنا يتضح أيضاً المعنى السياسي لتزامن طرح "قانون القومية" مع التكثيف غير المسبوق لعمليات مصادرة الأرض والاستيطان والتهويد، والمغزى السياسي لطرح مشروع قانون أساسي ملتبس ينص على "تطبيق القانون الإسرائيلي على الضفة الغربية"، ما يعني، على الأقل، تحويل الضم الواقعي للكتل الاستيطانية الكبرى في الضفة إلى ضم رسمي على غرار ضم "القدس الشرقية" والجولان. هذا ناهيك عن دلالات تزامن طرح "قانون القومية" هذا مع تصريحات يطلقها نتنياهو وباقي أركان حكومته تشير جميعها إلى المعنى أو المضمون السياسي العدواني التوسعي ذاته، وإن بأشكال مختلفة، منها مثلاً: "الإسرائيليون ليسو محتلين، بل يعيشون على أرض آبائهم وأجدادهم"، و"لن يكون في الضفة دولة، بل حكم ذاتي مُسيطر عليه جواً وبراً"، و"نطاق أمن دولة إسرائيل يمتد من حدود الأردن مع العراق شرقاً إلى شواطيء البحر المتوسط غرباً"، و"نحن لا نبحث عن تسوية للصراع، بل عن إدارة له"، و"هنالك حاجة لترتيبات أمنية طويلة الأمد في الضفة الغربية".
رابعاً: هنا تعديل يعني بلا لبس، وهنا الأهم، تغطية قانونية لرفض الاعتراف بحق اللاجئين في التعويض والعودة إلى ديارهم التي شردوا منها، بل يعني أن ثمة مسعى جدياً، يحظى بإجماع الأحزاب الصهيونية كافة، لإسقاط هذا الحق لا كما نص عليه القرار الدولي 194، فحسب، بل وكما ورد في "مبادرة السلام العربية" بصياغة ملتبسة تدعو إلى إيجاد "حل عادل ومتفق عليه لقضية اللاجئين"، أيضاً. ماذا يعني كل الكلام أعلاه؟
إقرار حكومة الاحتلال بقيادة نتنياهو لمبدأ "قانون القومية"، وبمعزل عن الصيغة التي سيتم تخريجه بها، هو امتداد، وترجمة، وذروة، وتصعيد، لهجوم سياسي توسعي وميداني عدوانى وقانوني عنصري غير مسبوق، رسمت معالمه بجلاء حكومة نتنياهو الأولى، وبلغ ذروته في تراجع حكومته الثانية في آذار الماضي عن تعهدها إطلاق "الدفعة الرابعة" من قدامى الأسرى، ما أدى إلى وقف جولة المفاوضات التي قادها كيري، وإلى فشل الأخير كممثل لإدارة أوباما في استئناف المفاوضات بفعل التبني الأميركي لمطالب حكومة الاحتلال التعجيزية، بما فيها مطلب الاعتراف بإسرائيل "دولة للشعب اليهودي، وشروطها الرافضة حتى للتجميد المؤقت والجزئي لعمليات مصادرة الأرض والاستيطان والتهويد، وتحديد خطوط 4 حزيران 1967 مرجعية للتفاوض. وهي المطالب والشروط التي لا تعبر عن تشدُّدٍ تفاوضي، بل تعبر عن سياسة هجومية تستهدف تصفية القضية الفلسطينية من جميع جوانيها، ولا تترك متسعاً لحل وسط أو تسوية سياسية للصراع. فعوض الإفراج عن الأسرى تم تصعيد التنكيل بهم، بل وسن "الكنيست" قانوناً أساسياً يمنع الإفراج السياسي عن أسرى الأحكام المؤبدة والعالية قبل مرور 40 عاما على اعتقالهم. وعوض الوقف الشامل والكلي لعمليات مصادرة الأرض والاستيطان والتهويد، جرى تكثيف هذه العمليات مع توجهات لتحويل الضم الواقعي للكتل الاستيطانية الكبرى في الضفة إلى ضم رسمي. وعوض التخلي عن مطلب الاعتراف بـ"إسرائيل دولة للشعب اليهودي"، اقترح نتنياهو، وأقرت حكومته، صيغة قانون أساسي يوطد إسرائيل غير محددة الحدود "دولة لليهود" في أماكن تواجدهم كافة. وعوض الالتزام بـ"التهدئة" الميدانية، لم تكتفِ حكومة الاحتلال بشن حرب التدمير والإبادة الجماعية المبيتة على قطاع غزة، بل شنت أشرس هجمة تهويدية على القدس لحسم معركتها وتحديد مصيرها السياسي. وعوض وضع حدٍ لفلتان عصابات المستوطنين في الضفة والقدس غطت حكومة الاحتلال جرائم هؤلاء المستوطنين، ما شجعهم على تصعيد جرائمهم واعتداءاتهم متعددة الأشكال على حياة الفلسطينيين وممتلكاتهم ومقدساتهم.
خلاصة القول: لا عجب في أن تطرح حكومة نتنياهو بالذات "قانون القومية" هذا. إذ صحيح أن نهجها التوسعي العدواني يشكل امتداداً لنهج كل ما سبقها من حكومات الاحتلال، لكن ما يميزها هو أنها تتشكل من ائتلاف يجمع الجناحين العلماني والديني للصهيونية، ويشغل الوزارات الأساسية فيها وزراء يسكنون المستوطنات، ويتقلد في ظلها أعضاء في الجناح الصهيوني الديني ثلث المراتب العليا والمتوسطة في الجيش والأجهزة الأمنية. وهذا كله ما باتت تحذر منه حتى جهات سياسية وإعلامية وعسكرية وأمنية صهيونية، لدرجة أن يتهم رئيس جهاز "الشاباك"، يورام كوهين، ورؤساء سابقون للجهاز، نتنياهو وعدداً من وزرائه وأعضاء "كنيست" وحاخامات بالمسؤولية عن إعطاء الصراع طابعاً دينياً، علماً أن الحركة الوطنية الفلسطينية لم تسقط قط في رذيلة معاداة اليهود كيهود، بل ظلت منذ انطلاقها في عشرينيات القرن الماضي تخوض نضالاً سياسياً وطنياً تحررياً متعدد الأشكال ضد استعمار استيطاني إقصائي احلالي، اتخذ قادته من هيرتسل حتى نتنياهو "المسألة اليهودية" غطاء لتنفيذ أبشع عملية سطو سياسي عرفها التاريخ الحديث والمعاصر ضد شعب لا علاقة له من قريب أو بعيد بما وقع لأتباع الديانة اليهودية من اضطهاد في دول شرق وغرب أوروبا الاستعمارية. إذا الصراع ليس دينياً بل سياسياً لكن حكومة نتنياهو بسياستها الهجومية، وذروتها "قانون القومية"، تدفع الأمور بهذا الاتجاه، ذلك بشهادة قادة سياسيين وعسكريين وأمنيين إسرائيليين ليسو أقل تمسكاً بصهيونيتهم من الثلاثي الفاشي نتنياهو وبينت وليبرمان.