الحلقة المركزية بعد خمسين عاماً من الثورة

حجم الخط

   

 

   في كانون ثاني 1965 انطلقت حركة "فتح"، ثم توالى انطلاق باقي فصائل الثورة الفلسطينية المسلحة المعاصرة، كحدث تاريخي في حياة الشعب الفلسطيني وكفاحه الوطني الذي لم ينقطع منذ أعلنت الحركة الصهيونية، في نهاية القرن 19، هدف مشروعها الأساس: جلب المهاجرين اليهود للسيطرة على أرض فلسطين وتفريغها من شعبها، وإقامة "دولة يهودية كما هي انجلترا انجليزية". تحل الذكرى السنوية الخمسون لانطلاق هذا الحدث التاريخي في ظل هجوم صهيوني سياسي وميداني شامل، خلَّف دماراً شبه كامل لقطاع غزة، وفجَّر هبات شعبية متلاحقة في مدن الضفة، والقدس خصوصاً، وولَّد مواجهة دبلوماسية مع الولايات المتحدة التي أحبطت التصويت على المشروع الفلسطيني/العربي لـ"إنهاء الاحتلال"، رغم ما أدخل عليه من تعديلات لتفادي الفيتو الأميركي، ما يؤكد أن الإدارات الأميركية ثابتة على عدائها للشعب الفلسطيني ولأدنى حقوقه الوطنية المكفولة بقرارات الشرعية الدولية، وثابتة على رعايتها لحكومات الاحتلال السائرة قدماً، وبوتائر غير مسبوقة لتنفيذ مخططها لاستيطان وتهويد ما تبقى بيد الفلسطينيين من أرضهم، بما لا يترك متسعاً لحل وسط أو تسوية سياسية للصراع تلبي ولو أدنى الحد الأدنى من الحقوق الوطنية للشعب الفلسطيني، فما بالك بحقوقه التاريخية؟!  

   هنا لئن كان من الظلم اختزال مسيرة خمسين عاماً من الثورة في ما أصابها من تراجع والتباس وفقدان اتجاه، خاصة بعد إبرام اتفاق أوسلو، 1993، فإن من العناد الذي لا طائل منه عدم التوقف، وإجراء مراجعة وطنية جدية وشاملة، لتصويب ما لحق بمشروع النضال الوطني الفلسطيني من اختلالات بنيوية بفعل عشرين عاماً ويزيد من مفاوضات صار الإجماع الوطني على عقمها وضررها شبه كامل. ما يعني أن الحفاظ على منجزات 50 عاماً من النضال الوطني بقدر ما يحتاج إلى التوازن في التقييم يحتاج إلى الاعتراف بما أحدثه "اتفاق أوسلو" ومفاوضاته من تغيير جوهري، حتى أصبحت بدايات خطاب الثورة الفلسطينية المعاصرة، في محاور أساسية، لا تمت بصلة لواقع الخطاب الحالي، بينما لا تزال أصول هذا الخطاب متجذرة في أوساط الشعب الفلسطيني وجنباته في الوطن والشتات، ما سيؤدي، عاجلاً أو آجلا، إلى استعادة خطاب الثورة  وتفعيل المقاومة بأشكالها، كخيار دفاعي مفروض على الشعب الفلسطيني، كانت حركة القسام بلورته ضد الانتداب البريطاني وموجات الهجرة اليهودية في ثلاثينيات القرن الماضي، بينما لم يحُل "زلزال" "النكبة" دون استئنافه، بعد إرهاصات وتراكمات، على يد حفنة من طلائع فلسطينية تجشمت مصاعب إطلاق شرارات الطور المعاصر للثورة الفلسطينية في مواجهة الاحتلال الصهيوني ورعايته الاستعمارية الغربية التي انتقلت قيادتها من "بريطانيا العظمى" إلى الولايات المتحدة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية وحتى اليوم. ماذا يعني الكلام أعلاه؟

   لئن كان فشل مفاوضات "أوسلو" هو السبب الأساس لأزمة المشروع الوطني الذي أطلقته الثورة الفلسطينية المعاصرة، فإن مدخل تجاوز هذه الأزمة يكمن في استعادة خطاب النقلة التاريخية التي أحدثها انطلاق هذه الثورة في حياة الفلسطينيين، عموما، واللاجئين خصوصاً، كنقلة أكدت على ترابط المشروع الصهيوني والمشروع الاستعماري الغربي في المنطقة، ومنعت طمس الهوية الوطنية الفلسطينية، وحالت دون إسدال الستار على القضية والحقوق الوطنية والتاريخية للشعب الفلسطيني، وأسست لتغلغل التمرد الثوري في أوساطه حتى أصبحت الانتفاضات والمقاومة الشعبية متعددة الأشكال نمط حياة لديه، حيث قدم ما يربو على مئة ألف شهيد، وأضعاف أضعافهم من الجرحى، وقرابة 800 ألف أسير، وما يتاخم الأسطوري من التضحيات الشعبية بالمعنى الشامل للكلمة.

   ما يعني أنه لئن كان التمسك بتعاقد "أوسلو" ومواصلة تجريبه، كخيار فاشل وضار، أكثر من اللازم، هو السبب الأساس للمأزق متعدد الأوجه والأبعاد الذي تعانيه، بتفاوت، فصائل الثورة الفلسطينية المعاصرة، فإن مدخل الخروج من هذا المأزق يتمثل في إخراج ملف القضية الفلسطينية من الرعاية الأميركية، واستعادة المطالعة التي قدمتها منظمة التحرير الفلسطينية عام 1968 لإنهاء الصراع، أعني "إقامة دولة فلسطين الديمقراطية العلمانية"، بوصفها المطالعة الأكثر وعياً للصيرورة الواقعية للتناقض بين الوطنية الفلسطينية والمشروع الصهيوني، خاصة بعد ما أُرتكب بحق الفلسطينيين وأرضهم في العامين 1948، و1967، برعاية استعمارية غربية، أميركية خصوصاً، من عمليات تطهير عرقي مُخطط ما زالت مستمرة، ولم يعرف تاريخ البشرية الحديث والمعاصر لها مثيلاً، ما حوَّل الصراع إلى صراع تناحري شامل ومفتوح، بل إلى اشتباك تاريخي صار "إنهاؤه" غير "تسويته"، بمعنى تهدئته وتغيير أشكاله، وهو ما يصعب، كي لا نقول يستحيل، بلوغه إلا بتعديل ميزان القوى، أي بتوافر عوامل قوة وطنية فلسطينية وقومية عربية وتحررية دولية، تخرج القضية الفلسطينية من القبضة الأميركية، وتجبر الأحزاب الصهيونية على التخلي عن "يهودية إسرائيل"، وعلى تفكيك نظامها الصهيوني، كنظام عنصري توسعي عدواني إقصائي إحلالي، وعلى الاعتراف بالحقوق الوطنية والتاريخية للشعب الفلسطيني، وجوهرها حق اللاجئين في التعويض والعودة إلى ديارهم الأصلية، كحق أصيل أولاً، ويكفله القرار الدولي 194 ثانياً.

   هنا تكمن الاسباب الأساسية لفشل عشرين عاماً ويزيد من المفاوضات في إحراز تسوية للصراع من دون الاخلال بأيٍ من عناصر "البرنامج المرحلي"/ "العودة وتقرير المصير والدولة"، كعناصر مترابطة غير قابلة للمقايضة أو المبادلة، ما يعني أن الفشل الذريع لخيار "أوسلو" يدفع، تقدم الأمر أو تأخر، نحو إحياء هذا البرنامج الذي أطلقته منظمة التحرير الفلسطينية في أواسط سبعينيات القرن الماضي لـ"تسوية الصراع" الذي لا يمكن "انهاؤه" حتى مقابل إقامة دولة فلسطينية مستقلة على كامل حدود 67، فما بالك أن يكون مقابل إقامة حكم ذاتي فلسطيني بمسمى دولة،  كما تعلن وتنفِّذ حكومات الاحتلال بأحزابها الصهيونية الأساسية، برعاية أميركية ثابتة، ما يعني أنه على الرغم مما أحدثه اتفاق أوسلو ومفاوضاته العبثية من خلل بنيوي أفضى، فيما أفضى، إلى ضرب أهم إنجازات الثورة الفلسطينية المعاصرة، أعني ضرْب منظمة التحرير الفلسطينية، برنامجاً وهدفاً ووسائل، حيث تم تهميش دورها، وتراجع مكانتها، وشلُّ مؤسساتها، وتبقرط وانقسام فصائلها، وتفكك اتحاداتها الشعبية ومنظماتها القطاعية وأطرها الجماهيرية والنقابية، إلا أن إعادة بناء هذه المنظمة على أسس وطنية وديمقراطية، وإعادة الاعتبار لها كجبهة وطنية لفصائل حركة تحرر وطني متنوعة المشارب الفكرية والسياسية، وإطار وطني جامع، وممثل شرعي وحيد للشعب الفلسطيني، وقائد لنضاله، وحافظ لهويته الوطنية، في الوطن والشتات، هي، لا تشكيل البدائل الأيديولوجية الموازية والمنافسة لها، الحلقة المركزية الفلسطينية التي يجب أن تتركز عليها جهود كل الحريصين على وحدة الشعب الفلسطيني وأرضه ونضاله في الوطن والشتات، وجهود كل العاملين بجدية على إنهاء الانقسام الداخلي العبثي المدمر الذي تعيشه منذ سنوات الأطر القيادية الرسمية الفلسطينية، ويخدم، أياً كانت النوايا والتبريرات، هدف  قادة  الاحتلال الثابت في ضرب وحدة الشعب الفلسطيني، المعبَّر عنها في منظمة التحرير الفلسطينية التي تتعرض، منذ ضرْب ركيزة الثورة الفلسطينية في لبنان عام 1982، لهجوم سياسي استهدف تحويلها إلى هيكل بلا مضمون، وصولاً إلى إلحاقها بـما أنشأته في العام 1994 من "سلطة وطنية فلسطينية" محدودة الصلاحيات ومثقلة بشروط تعاقد "أوسلو" السياسي والتزاماته الأمنية والاقتصادية، بل ومنقسمة عمودياً منذ العام 2007، ليس ارتباطاً بالخلاف السياسي حول "اتفاق أوسلو"، فحسب، بل بالصراع الأيدلوجي على تمثيل الشعب الفلسطيني في مرحلة تحرر وطني لم تنتهِ، ولم تُنجز مهامها، بعد، أيضاً.