وثائقي "ما تبقى لنا".. سرد في رمزية وواقعية رسائل غسان كنفاني

وثائقي
حجم الخط

عُرض مؤخراً على شاشة الجزيرة الوثائقية فيلم "ما تبقى لنا: رسائل كنفاني" (53 دقيقة) للمخرج اللبناني جاد أبي خليل عن الكاتب والسياسي الفلسطيني غسان كنفاني الذي قتل عام 1972 بتفجير نفذه عناصر الموساد "الإسرائيلي" في إحدى ضواحي بيروت الشرقية.

فيلم "ما تبقى لنا: رسائل كنفاني" الذي عرضته مؤخراً قناة الجزيرة الوثائقية، وهو للمخرج اللبناني جاد أبي خليل، حاول التطرق لجوانب خاصة من حياة الكاتب والسياسي الفلسطيني غسان كنفاني من خلال بعض أعماله التي جاءت كرسائل – قصص تناولت بسردية بسيطة ورمزية معقدة القضية الفلسطينية وأحوال اللاجئين الفلسطينيين.

يسعى الوثائقي إلى إبراز جملة من وجوه حياة كنفاني الشخصية من خلال محاكاة مجموعة من الشخصيات، بادرت كل منها بقراءة لإحدى القصص-الرسائل بشكل عكس تأثرها بتلك القصة وما أثارته فيها من مكنونات ذاتية.

الفيلم لم يتناول كل رسائل غسان، بل قام المخرج بإبراز تصور شخصي من خلال اختيار أربع رسائل، رأى فيها أساساً لتعريفه بشخصية كنفاني. لكن أدوار الشخصيات المتعاقبة على الكاميرا خلق نوعاً من الإشكالية لدى المتلقي عن الجدوى من ظهورها كلها دفعة واحدة.

فما هي العلاقة التي تربطها ببعضها؟ وما المغزى من هذا الفيلم؟ وما هي الرسالة التي يحاول المخرج إيصالها؟ وما الذي يربط كل هذه الشخصيات بتجربة الكاتب الفلسطيني؟ اختار المخرج أربعة فنانين ليحاكوا الرسائل المختارة بأعمالهم، كما تظهر آني زوجة غسان وسميرة صلاح التي عايشته في فترات محددة من عمله السياسي وشريف بيبي الصحفي الذي يتكلم عن علاقته بنص غسان وتأويله الخاص لهذا النص.

مهندس الإضاءة علاء الميناوي اختار أن يقدم رؤيته الخاصة لقصة "العروس" بمنتوج بصري ينطلق من "طرحة" بيضاء (رمز العروس) ومعطف جلدي أسود وحلقات من الدخان. و"العروس" هو الاسم الحركي "للمرتينة" أو البندقية، التي تحولت لمهر عروس بعد أن اضطر أحد الرجال، ومن أجل الحصول عليها، تزويج ابنته لأحد الكهول الذي دفع له مهراً يمكنه من شراء تلك البندقية لمقاومة هجوم المحتل، والمحافظة على بلاده من الضياع.

ما لا نفهمه جيداً هو محاولة ترميز الرمز من جديد. وكأن رموز غسان في القصة استحالت رموزاً أخرى خاصة بعين الميناوي - مهندس الإضاءة. أمر شكل خطرًا مباشرًا على بنية الفيلم والمغزى منه. إذ يضيع المشاهد بين نص غسان وصوره على الورق، ولوحة علاء الميناوي الفنية على المسرح.

الرسام والفنان عبد الرحمن قطناني اختار أن يحاكي رواية "موت سرير رقم 12" من خلال صناعة صندوق وضع فيه قطعة من السلك الشائك ومفتاح بيت جده في يافا وبعض قطع القماش المطرز. مجموعة أشياء-مفاهيم تحاكي روح الرواية التي تتمحور حول شعور المغترب المعذب الذي يحاول التعلق بالماضي. يتحدث غسان، وهو يأخذ صفة الراوي، عن مريض يحتضر أصله من عُمان.

يشرع برواية قصة حياة هذا المريض الذي تخيله مهاجراً شق طريقه بعزم وتصميم رغم العقبات، لكن الحياة خانته بعد إصابته بمرض فتاك. وتخيل غسان محتويات الصندوق الذي ما انفك المريض العماني يضغط عليه بكل قوته، وهي عبارة عن "عباءة بيضاء شفافة مذهبة الأطراف... حلق خزفيّ لأخته سبيكة تزين بها أذنيها، وزجاجة من عطر قوي، وصرة بيضاء مصرورة على ما يسره الله له من نقود".

يموت العماني فتنكشف الحقيقة! ما تخيله غسان كان صورة مصبوغة بألوان حالمة للحياة، فحياة العماني في الواقع أكثر قسوة، وما كان في الصندوق ليس سوى "مجموعة فواتير وديون وظرف فيه صورة قديمة وجلدة ساعة قديمة، وخيط من القنب، وشمعة صغيرة، وبضع روبيات منثورة بين الأوراق". لا نعرف إذا ما كانت رمزية الصندوق في القصة التي تعبر عن أزمة محمد علي (المريض العماني) الوجودية قد وصلت بكل صورها ومعانيها من خلال صندوق عبد الرحمن، لكنها كانت محاولة ولو ضعيفة.

المصورة الفوتوغرافية داليا الخميسي اختارت أن تحاكي قصة "ورقة من غزة" من خلال تصوير فتاة صغيرة تتجول في أحياء مخيم للاجئين الفلسطينيين في لبنان وهي ترتدي سروالاً أحمراً وفي يدها لعبة. القصة الأصلية تدور حول صديقين نشآ معاً في غزة، وقررا أن يعملا في الكويت ليوفرا المال ومن ثم يسافران إلى كاليفورنيا ويواصلان الدراسة هناك، وبذلك يصبحان ثرييْن ويودعان الفقر ويستمتعان بملذات الحياة. وحين يعود أحدهما إلى غزة، بعد إقامة عام في الكويت، يجدها كما عهدها تماماً. فيقرر عدم العودة إلى الكويت أو السفر إلى كاليفورنيا بعد أن رأى ابنة أخيه الشهيد نادية وقد بترت ساقها من أعلى الفخذ بسبب إحدى الغارات "الإسرائيلية". أرادت نادية أن تنقذ أخويها فأصيبت، وكان بإمكانها أن تهرب فتنجو. لكنها لم تفعل... وهكذا تعلم عمها منها درس التضحية بالذات من أجل الآخرين.

الرمزية الفنيّة التي اختارتها المصورة عرّضت بنية الفيلم للاهتزاز مرة أخرى. فعوضاً عن تجسيد انعكاس القصة على الواقع الحالي، دخلنا مرة جديدة في خيال غير واضح. أمر وضع المشاهد في موقع مفاضلة بين صورة المصوِّرة ونص غسان كنفاني، وهو ما لم يرده المخرج بكل الأحوال.

مغني الراب الفلسطيني السوري المقيم في لبنان رائد غنيم اختار أن يجسد نص "في جنازتي" من خلال أغنية تحدث فيها عن نفسه من زاوية حاضره المعاش. أما نص "في جنازتي" فيحمل إحساس كنفاني بالموت الذي يحطم رغبته في حياة مؤجلة إلى الغد، اعترضها الموت، ثم رمت بها "الخيانة" نحو الانكسار. كان يمكن الاستفادة من وجود الشاب رائد غنيم صاحب الهجرتين (الفلسطينية أولاً والسورية ثانياً) ومن موسيقاه منذ بداية الفيلم. فالراب موسيقى الشباب المعاصر، وهي تعبر بكلماتها المباشرة وكتابتها الإيقاعية عن وضعية شريحة واسعة من الشباب الفلسطيني الذي يخضع الآن لمخاض التعرف على الهوية وإعادة صياغة مفهوم الانتماء.

الفيلم محاولة قوية ومباشرة لتجسيد وجه من وجوه حياة غسان كنفاني من خلال بعض رسائله، إلا أن إحساس المشاهد بقي عالقاً في سعي المخرج إلى إظهار شخصيات فيلمه وكأنها مترابطة في مكان ما. كان من الممكن للمخرج اللبناني جاد أبي خليل أن يقدم الموضوع بأسلوب مختلف ورؤية أوضح. رغم ذلك يعتبر فيلم "ما تبقى لنا: رسائل كنفاني" بمثابة مغامرة جريئة لإعادة قراءة عالم الكاتب الفلسطيني.