طبقات غير متبلورة وانقسام في الهوية

حجم الخط

نادرة هي الكتب المصاغة بمنهجية ماركسية هذه الأيام، وهذا بعكس الرواج السائد في سبعينيات القرن الماضي . كتاب غازي الصوراني ( التحولات الاجتماعية في الضفة الغربية وقطاع غزة )، من هذه الكتب النادرة والتي تظهر فيها هذه المنهجية ولكن بصورةٍ نقديةٍ، ولطالما تميّز عمل الرجل بها ، فهو لا يتمسك بتنظير ماركسي أوربي أو سوفيتي، بل يحاول وقعنة الماركسية في الشروط العربية والفلسطينية. ففي الصفحة الأولى يشير إلى " الالتباس المنهجي حول مفهوم التحولات الاجتماعية. ويبين كيف أن البنية الاجتماعية الفلسطينية هي بنية متعددة، علاوة على تخلفها وتبعيتها" وبالتالي، ليس هناك من بنية مستقلة في لحظة نشوئها أو صيرورتها، بل هي خاضعة لنظام إمبريالي عالمي يُحكِم ضبطها في وضعية كولونيالية، مع استعمار استيطاني، شتّت أفراد هذه البنية في مختلف أرجاء الأرض وبقاع المعمور، ومنع تشكّل دولتها المستقلة، الأمر الذي دمّر كل مرتكزات البنية العامة، شعباً ودولةً وجغرافية، باعتبارها من أهم الأسس لبناء الدولة، فأصبح من غير الممكن تشكيل الدولة الفلسطينية. غازي الصوراني، يحاول فهم بنية الضفة الغربية وغزة وفقاً لركيزتين، رغم ما اشرنا إليه، وهما : التوزيع الديموغرافي والطبقات الاجتماعية، دامجاً منهجيات علم الاجتماع والماركسية معاً، رغم أنّه يتحفظ على مفهوم الطبقات؛ ففي البلاد المتخلفة ومنها فلسطين تحت الاحتلال، لا طبقات ناجزة، ولا تعبيرات سياسيّة ونقابية واضحة ومتمايزة عنها، وكل ما هناك نخب مسيطرة، غاية في الرثاثة فكراً ومشروعاً وممارسةً، ولكنّه يقرّ بضرورة استخدامها- مفهوم الطبقات- مجازياً لفهم المتغيرات والتحولات التي حدثت في الضفة وغزة. وفي هذا يشير إلى أن الوضع الفلسطيني تراجع بدءاً من اتفاقيات أوسلو ولاحقاً مع 14حزيران 2007 وإستيلاء حماس على غزة، ويضيف" أن كلا من حركتي فتح وحماس تقدم للشعب الفلسطيني، أسوأ صورة ممكنة عن حاضر ومستقبل المجتمع الفلسطيني" ويستنتج" أن السياسة باتت فناً للفوضى أو الموت البطيء بدلاً من إدارة الصراع الوطني والاجتماعي، وهي حالة يمكن أن تؤدي إلى نكبة أشد خطراً وعمقاً من نكبة 48" ص14. هذا الاستنتاج، يعني أن حركات التحرر الوطني و" الإسلامي" حركات تشوبها الكثير من الأسئلة، عن مقدار وطنيتها وتقدميتها وعدم تمسكها بنظام قانوني يحاسب الجميع، وفي هذا غالت حركات التحرر العربية وغلت بالكثير من التشوهات، التي توضح، مقدار هشاشتها وعدم تمثلها قيم التنوير والحداثة أو حتى القيم الثورية بما هي قيم تغيير جذري للمتجمع المتخلف والمتأخر والمستعمر، وهو ما يفسر جزئياً سبب إخفاقها وتقدم التيارات الظلامية. الكاتب، لا يستند إلى الأيديولوجية والنصوص المحفوظة، ويبتعد كثيرا عن تسييس بحثه، ولا يتقرب من سلطتي الأمر الواقع، الذي يقول: إنهما واقعتان تحت الاحتلال، ويكفيهما مزايدات عن وطنيات افتراضية، لا مكان لهما، في الممارسات، حيث الاستبداد والتضييق على الحريات والتكيف والانسجام مع المرجعية الإسرائيلية في منع تشكّل دولة فلسطينية! الأسوأ في كل تاريخ النضال الفلسطيني، أنه وحينما صار لدى الفلسطينيين مشروع دولة، انقسموا إلى دولتين: واحدة إسلامية في غزة تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر ، والثانية وطنية سلطوية وتربط الجميع بحزام المفاوضات باعتبارها صك النجاة من الهلاك وباعتبارها الحل الوحيد. انتبهوا هنا، لكلمة وحيد. فسابقاً كان الحل الوحيد يقال عن أن منظمة التحرير هي الممثل الشرعي والوحيد ولم تشذ حركة سياسية فلسطينية عن القول بأنها هي الحل الوحيد، وإذ بنا نصل لحل وحيد فعلاً : فحماس تتكلم عن حل إسلامي وتقمع الفلسطينيين في غزة وأبو مازن يمارس نفس الفعل في الضفة. وبالتالي لا يعد الحل الوحيد سوى فكرة وهمية وأيديولوجيا محضة! وليست هاتان السلطتان سوى تعبير عن أوضاع فلسطينية وعربية غاية في التدهور ومفتقدة لأية إستراتيجية مستقبلية! والقادم أسوأ، إن تسلمت حركة الأخوان المسلمين النظام المصري، وحينها ستكون أمارة غزّة امتدادا للدولة الإسلامية، وطبعاً سيكون الجميع برعاية القوى المهيمنة على العالم، حيث يشير الصوراني لفكرة ذكية، أن برنامج حركات الإسلام السياسي، ينطلق من اقتصاد السوق والربح، وفي هذا تلتقي مع النظام الرأسمالي، وهي ليست ضده، بل تعبير ظلامي عنّه؛ فيا له من حل وحيد؟! يدعم الفكرة السابقة باستنتاج، كنّا نرفضه لأمدٍ قريب ونؤكد بعقلية سحرية على أهمية الانتفاضة دون شروط أو تقييدات، فيقول" بعض ممارسات الانتفاضة الثانية قد جلبت الكارثة، ولو بالمعنى الجزئي، على الصعيدين المجتمعي الداخلي والسياسي العام"ص15 والكارثة هنا ليست في تقدم حركة حماس، بل في تدميرها للهوية الوطنية الفلسطينية وتفكيكها إلى هويتين متضادتين بالمطلق، كما أشرنا، ولذلك يؤكد على" مبدأ فصل الدين عن الدولة، الذي يعني الاستمرار في تأكيد احترام الدين والمشاعر الدينية وكافة الجوانب الإيمانية العديدة في تراثنا العربي الإسلامي"ص15 وقد يكون أسوأ ما في الانتفاضة الثانية2000 إبعادها المرأة عن ساحة النضال، وأسلمتها وتسليحها، وبالتالي عدم وجود إستراتيجية لها بعكس الانتفاضة الأولى 1987 التي لم يكن ممكناً السيطرة الإسرائيلية عليها، إلّا عبر اتفاقيات بين منظمة التحرير وإسرائيل، لم تستطع منظمة التحرير ولا سيما حركة فتح توظيفها، بما يخدم بالفعل، تشكيل دولة في أراضي ال67، وأدت الاتفاقيات، إلى إنهاء الانتفاضة بعقد صفقة اتفاقية أوسلو، التي أدّى عدم تنفيذها إلى صعود حماس والانتفاضة الثانية؟ في الكتاب المعروض والمنقود، يشير غازي، إلى أن التشكيلة الفلسطينية" لا تزال مشتملة على علاقات إنتاج اجتماعية وقبل رأسمالية" وفيها رابطة العائلة" الحمولة" سائدة حتى في القطاعات الاقتصادية، وحركتي فتح وحماس لم تقطعا معها، بل وظفتاها في خدمة سلطتيهما، وبالضد من أية تعبيرات حديثة ليبرالية أو يسارية أو وطنية عامة، ويستنتج هنا، وهو موضوع إشكالي، أننا " لا نجد دلائل كافية تؤكد هيمنة المستوى الإيديولوجي والسياسي الرأسمالي، فليس ثمة ممارسات سياسية وأيديولوجية واضحة، وتعكس رؤية وأفكار الطبقة الرأسمالية، وهذه المشكلة تمتد لتشمل بقية الطبقات الأساسية" ص115وهو ما يؤدي إلى تمايز وهيمنة رموز مالية أو رأسمالية وبعض رموز ال NGOS في الحقل السياسي الاقتصادي للسلطة. هذا الاستنتاج لا ينطبق على الضفة وغزة، بل هو حالة شائعة في العالم العربي، من مصر وحتى العراق والمغرب، وجميع البلاد العربية، فيها ذات المشكلة، وبالتالي يجب التدقيق في التكوين الاجتماعي والاقتصادي والسياسي، وتشابك التأخر والتخلف فيه، والحداثة المشوهة والدين السياسي، والأنظمة العربية الرثة والمشاريع الامبريالية، بعيداً عن منهجيات النسخ واللصق؛ الشائعة جداً في عالمنا العربي، ومن كل التيارات الفكرية، بما فيها التيار الديني، الذي يبدو من أكثرها تطبيقاً لها عبر القياس الفقهي، وفتاوى القرون المندثرة، التي لا تمت لعصرنا بصلة، رغم أنّه يستدعيها في وجه منه؟! منذ قيام السلطة 1994 جرت تحولات كثيرة في المجتمع الفلسطيني، أدّت إلى تفتيته، وتشظيه، وزرعت فيه قيم انتهازية واستهلاكية ومناهضة للوطنية، أنتجتها تلك السلطة، وحركة حماس غطّت عليها في مرحلة الشراكة بينهما في السلطة، ولاحقاً صارت هي السلطة وعززت ذات القيم و أسلمتها، رغم أنها صعدت على أكتاف أخطائها"السلطة". حماس وفتح إذن شريكتان في ذلك التشظي، الذي أخذ أشكال عدّة، ومنها: تراجع ظاهرة المجتمع السياسي المدني الذي انتشر إبان الانتفاضة الأولى، ونشأت نخب طبقية بيروقراطية- كمبرادوية، مرتبطة بالمشروع الأمريكي الصهيوني، والأنكى أن الاحتلال بقي، واشتد التمايز الطبقي متزامناً مع حالة عدم تبلور طبقي، وبالتالي سهولة إلحاق الفئات الاجتماعية بسلطتي الأمر الواقع، عدا عن تراجع القيم الأخلاقية والتربوية في الأسرة، وجرى تفكيك" الحركة النقابية العمالية والحركة النسوية وقوى اليسار الفلسطيني" وسادت سلوكيات أنانية تتسم بالراهنية والتركيز على قضايا الأجل القصير، وأصبح المجتمع ولا سيما في غزة، محكوم بالصراع والاستبداد والخوف والتعصب الديني اللاعقلاني، وبالمصالح وبالثروات الشخصية على قاعدة أن السلطة هي مصدر الثروة وليست مصدراً للنظام والقانون والعدالة، وتزايدت الولاءات الشخصية والعشائرية والاستزلام، حتى أن الانقسام وصل إلى التربية والتعليم، فالمناهج في الضفة توضع مراعيةً الشروط الدولية، وفي غزة وفق المنطق الأصولي الغيبي!! وإذ يشير غازي إلى إزاحة رموز الفساد من غزة بعد 2007 فإنّه يؤكد أن حكومة حماس فرضت نوعاً من الانضباط على سكان غزة وأن أجهزتها تمارس الاعتقال وكبت الحريات والآراء وتعبئ الشعب ضد اليساريين والعلمانيين، وتسميهم" الملحدين" ولدى حماس ممارسات في البذخ وشراء الشقق والأراضي والسيارات ويتم توظيف المرافقين لكبار قياداتها، وهذا يتزامن مع بؤس وبطالة وإفقار كبيرين، أدى إلى تأسيس التنظيمات السلفية العدمية المتطرفة التي كفرت حركة حماس ذاتها، وكل من يتحدث عن الديمقراطية والتعددية أو تطبيق القوانين الوضعية" ليستنتج غازي" أن النتيجة الحتمية لهذا المسار في غزة تقضي بأن تحل روح الخضوع محل روح الاقتحام وروح المكر محل روح الشجاعة وروح التراجع محل روح المبادرة وروح الاستسلام محل روح المقاومة"ص107 وكل هذا في منطقة تدعي السلطة المسيطرة عليها، أنها حركة مقاومة، وتناهض سلطة الضفة الغربية؟! هذه المؤشرات تقود إلى تحديد الطبيعة الطبقية للسلطة، بأنها سلطة كمبرادورية وبيروقراطية، تستثمر السلطة لصالح مشاريعها الفئوية، وبتحالفاتٍ طبقية من نخب اقتصادية متعددة النشاطات تختلف في غزة عن الضفة، وبالتالي، وفلسطينياً، تلتقي فتح مع حماس، لتعيدا السيرة السيئة للنظام العربي، الذي برمته حوّل السلطة إلى مصدر الثروة، قاضياً على مشاريع التنمية وتحرير الأرض وبناء دولة المواطنة والقانون، ومنعشاً كل الحركات ما قبل الحديثة، والتي أصبحت مسيسةً باسم الدين أو القبيلة أو الإثنية، فهل يخلو بلد عربي من السودان إلى اليمن إلى الجزائر فلبنان والعراق، وبالتأكيد غزة الحمساوية، من حركات من هذا القبيل. الانقسام الذي تمّ في 14 حزيران 2007، خلق مجتمعين فلسطينيين، وفي كل دويلة أو أمارة، ونخب اقتصادية وسياسية متمايزة، ويقول غازي في هذا" يتميز وضعنا الفلسطيني بالتخلف وإعادة إنتاج التخلف المتراكم والمتجدد، إلى جانب الركود أو البطء الشديد في مسار نموه" ص112. غازي الصوراني باعتباره المنظر الأبرز في الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، فإن طريق الحل للإشكال الفلسطيني لديه، لا يتم بمصالحات عربية، ولا بالتفاوض مع الاحتلال الإسرائيلي ولا بأسلمة القضية، ففي ذلك مقتلها، بل يتم بوضع إستراتيجية وطنية لكل القضية الفلسطينية، ويتحمل اليسار الفلسطيني والعربي المسؤولية عن تحقيقها، واستنهاض المجتمع العربي. فاليسار ليس يساراً إن تحالف مع سلطة تمارس التفاوض ولا تضع في خياراتها سواه أو تكون فاسدة أو تستبد بالناس أو تؤسلمهم، وبالرغم من هذا الاعتقاد"اليساري"، الذي يصوره باعتباره الحل الوحيد، فإنه يعود ليؤكد، على أن " الواقع الاجتماعي الفلسطيني مملوء بالتعقيدات النظرية إلى جانب التعقيدات في مكوناته، أو خارطته الطبقية" ص122 وبالتالي، من الوهم المطلق وضع سيناريو واحد قابل للحل. ورغم ما ننتقده هنا، فإنّ غازي الصوراني يؤكد على قضية صحيحة وهي: إن القضية الفلسطينية وتعقيداتها، لا تحلّ فلسطينياً بل عربيّا، فالمشروع الصهيوني، مشروع إمبريالي، وهو ضد العالم العربي برمته، و لا بد من العودة مجدداً إلى قومنة القضية، والابتعاد عن قطرنتها، ففي هذا يمكن البدء بطريق الحل لهذه القضية المعقدة، عدا عن أن مصارعة الأنظمة العربية هي مصارعة النظام الإمبريالي العالمي، وبالتالي، عدم الاكتفاء بالتنديد بالاحتلال الصهيوني وكأن البلاد العربية بدون مشاكل، وبعيدة عن أشكالٍ من السيطرة الامبريالية عليها، وفي هذا لا بد من التخلص من عقلية الهروب نحو فلسطين واعتبارها هي فقط قضية العرب؛ فقضية العرب خارج فلسطين تكمن في تغيير أنظمتهم نحو أنظمة علمانية ديمقراطية، وفي هذا خدمة كبيرة للنضال الفلسطيني، ومناهضة فعلية للنظام الامبريالي، الذي منه إسرائيل"كإمبريالية صغرى" في المنطقة، وهي تؤسس لمرحلة جديدة من التداخل بين القومي والقطري، وعدم تغليب الأول على الثاني ولا الثاني على الأول. غير ذلك واستمرار الوضع على ما هو عليه، من سلط تعزز سيطرتها ويسارٍ انتهازي وتشابك بين الوطني والديني والقومي، سيؤدي فقط إلى تعميق مشكلات التخلف والتأخر والدوران في الاستنقاع، الذي لن يوصل الفلسطينيين سوى إلى شعب بدون قضية وأرض وشعب تحت الاحتلال بشكل كامل، وربما سيخرج العرب بأكملهم من خارج التاريخ، وفي هذا المقدمات متوفرة؟!. غنيٌ عن القول، إن هذا الكتاب قيّم، وربما من أندر ما قرأت عن مآلات الوضع الفلسطيني في غزة والضفة لجهة نقد الحركتين المسيطرتين هناك، عدا عن تضمنه رؤية يسارية علمانية، عز نظيرها، في يسار عربي، لا يزال لا يعرف بأي قدم يدخل إلى الواقع العربي؟!