أمراض عربية: التصويت للأحزاب الصهيونية والتنكّر للماضي

حجم الخط

مقالات كثيرة أكتبها تحت هذا العنوان وقلبي يدمع.. أخطّها بحزن كبير، متمنيا لو لم أر الظواهر التي أتحدث عنها في عالمنا العربي، وكنا قد تعلمنا طباعه الرئيسية الشهامة الوطنية الأصالة افتداء الوطن والآخر بالنفس.. وغيرها من الشيم. 
أتساءل الآن ماذا بقي من هذه الأخيرة جميعا في زمننا الرديء؟ ولولا بقية من إيمان بأننا سنصل يوما ما إلى الأفضل لطلّقت الكتابة واعتزلت في بيتي.. أجترّ الماضي التليد وأعيد قراءة التاريخ، ففي بعض الأحيان ونظرا لمرارة الواقع وألمه، يضطر الإنسان إلى إلهاء نفسه بالماضي والعيش فيه، أو يُصاب بالجنون والهلوسة في أدنى ردّات الفعل على الحاضر المليء بالانتهازية والزيف واعذروني إن قلت بالقذارة.
من ناحية أخرى يسألني كثيرون من أصدقائي ومعارفي وقرّائي الكرام لماذا أكتب؟ وماذا سأصّلّح في الخراب الكبير الحاصل في عالمنا العربي؟ في الجواب أقول لطالما تمسّكت بمقولة رائعة آمنت بها منذ مطلع شبابي، أن تضيء شمعة واحدة خير من لعن الظلام. ما أحاوله إضاءة شمعة، فأنا وغيري… لا نملك التغيير، إنه مهمتنا جميعا. بالمقابل هناك الصورة الأخرى المُناقضة للذي أطرحه فالدنيا ما زالت وستظل بخير، لكن ذبابة واحدة تُشعرك بالتقزز من (سدر) أكل إذا وقعت فيه.
سبق أن حدّثتكم عن مكسيم غوركي، أيقونة النضال البروليتاري الروسي وقصصه الرائعة، ومنها قصة بعنوان «أم الخائن» سأوجزها باختصار كبير، أم روسية اسمها مارينا لها ابن وحيد، انجبته بعد أن قتل زوجها في معركة مع أعداء قريبين من موقعهم، مجاورين حيث تسكن في مدينة صغيرة في أحد سهوب روسيا الواسعة. كبر الابن الطموح الساعي إلى المجد عبر أي طريق. تمكّن من تحقيق (مجده) من خلال الوصول إلى منصب قيادة جيش الأعداء الذي يقاتل أهله وبلده. احتارت الأم في الابن الخائن.. هو ولدُها الوحيد، لكنه الخائن لبلده وناسه. انطوت على نفسها في البيت، وامتنعت عن استقبال أحد لحزنها وخجلها. حاصر جيش الأعداء، بقيادة ابنها، المدينة التي تسكنها، ازدادت الأم معاناة وقهرا وحزنا. وفي صبيحة أحد الأيام ذهبت حيث حرّاس السور. رجتهم السماح لها بزيارة ابنها، أفهمتهم أنه وحيدها ومن حقها رؤيته. اختلف الحراس في الرأي، حسمها القائد.. بالسماح لها. خرجت تفتش عنه وتقول لحراس العدو أنها أم قائد الجيش. أخذوها إلى مكان قريب… انتظرته. حضر إليها، عانقها، قبّلّته، شمّته وجلسا معا. أخبرها بأنه سيهاجم مدينته صباح الغد، وأضاف أحبّ المجد يا أمي وأسعى إليه، طموحي يملأ الدنيا، لم أستطع تحقيقه في وطني. طلبت منه الأم النوم على حضنها مثلما في صغره.. رتّلت على رأسه ترانيم أغاني الفراق والحزن القوزاقية. قبلّته في وجنتيه. استذكرت طفولته وصباه. استلّت خنجرا من صدرها وطعنته في قلبه. جرجرت جسده حتى أبواب مدينتها. خاطبت الحرّاس اشهدوا قتلت عدونا.. ثم بالخنجر نفسه طعنت نفسها، دفنتهما المدينة متجاورين.
وردت القصة في ذهني، خاصة أنني أعيد قراءة رواية «الدون الهادئ» بأجزائها الأربعة، وقد نال عنها كاتبها العظيم ميخائيل شولوخوف، جائزة نوبل في حينها. الرواية تبحث في تاريخ روسيا بدءا من الحرب الروسية – الألمانية ودور القوزاق فيها، وصولا إلى كل أحداث ما قبل صدورها. للعلم نهر الدون (يبلغ طوله حوالي 1900 كم، ينبع في منطقة تولا ويصب في بحر آزوف، يجري من الجنوب الغربي إلى الجنوب الشرقي في الأراضي الروسية). ارتبط الدون بالقوزاق (قوم من بين أقوام عديدة تعاقبت على سهوب روسيا حول الدون) اشتهروا ببناء جمهورية مستقلة امتدت 200 عام، معروف عنهم تنظيمهم الحديدي، وقدرتهم خاصة في بناء مجتمع غاية في الانضباط. اشتهروا أيضا بتقاليدهم الحربية وبنيتهم العسكرية الفولاذية. يُعتبرون بحق حُماة الأرض الروسية. أشهر المدن على نهر الدون هي مدينة روستوف، قُدّر لي زيارتها، كما بعض مناطق الدون بضع مرات. المنطقة مشهورة بالصناعات، خاصة الخشبية. حاليا القوزاق يسكنون مناطق على الحدود الروسية مع بلدان أخرى. 
أيضا سبق أن تطرّقتُ إلى المرأة الروسية التي كانت تجمع البيض من نساء قريتها خوفا من بيعهن له للنازيين المُحتلين للقرية إبّان الحرب العالمية الثانية. أعدمها النازيون على ما اعتبروه مقاومتها لغزوهم. النصر هو فعل متكامل مرهون بالشعب كله، وقيادته المفترض حكمتها وإصرارها على مقاومة العدو. المرأة السوفييتية لم تحمل سلاحا، بل قاومت في مجال قدرتها. عملها هو فعل مقاومة سيبقى على مرّ التاريخ. كل منا لديه العديد من قصص المقاومة. شعبنا الفلسطيني وأمتنا العربية اجترحا المعجزات في دروس المقاومة، في كل أنحاء فلسطين وفي ساحات أخرى عربية. شعوبنا العربية أذاقت المستعمرين الويلات رحل المستعمرون.. حملوا عصيّهم على كواهلهم وانصرفوا. الاستعمار الصهيوني لفلسطين يخضع للقانون نفسه إن آجلا أو عاجلا. سنُجبرهم على الرحيل من حيث أتوا.
وسط كل ما كُتب في هذه المقالة من حزن وألم واشمئزاز أن ترى (فلسطينيا عربيا)… عضوا في حزب الليكود ويروّج لسياساته؟ إحدى القنوات الفرنسية (فرانس 24) أذاعت ريبورتاجا عن الانتخابات الصهيونية ومقابلة مع منذر صفدي، دافع فيها بحماس عن نتنياهو والليكود وأعلن أن 8000 عربي هم أعضاء في هذا الحزب، والأدهى أن فصائل معارضة سورية (كما أعلن) أرسلت برقيات تأييد وتهنئة لنتنياهو بعد فوز حزبه في الانتخابات. أيضا، فإن هناك أعضاء عربا في حزب الفاشي ليبرمان «إسرائيل بيتنا». حزب القاتل الأخير حصل في الوسط العربي على الأصوات التالية الناصرة 126 صوتا، عسفيا 450 صوتا، حرفيش 324 صوتا، جولس 269 صوتا، أبو سنان 799 صوتا، دالية الكرمل 627 صوتا، أم الفحم 6 أصوات، كفر ياسيف 71صوتا… والقائمة تطول. حزب «شاس» الأكثر تطرفا حصل في الطيبة على 52 صوتا. المعسكر الصهيوني حصل في الوسط العربي على 100 صوت وأكثر، خاصة بعد إفتاء (الزعيم) كمال جنبلاط بتأييد «القائمة العربية الموحدة» زادت نسبة تصويت ومشاركة الدروز في الانتخابات الصهيونية.
للعلم الكيان يفصل الدروز عن الجسم العربي ويقوم بتجنيدهم في الجيش (أيضا الشاعر المقاوم، القامة الكبيرة سميح القاسم وغيره الكثيرون من الدروز رفضوا وما يزالون تأدية الخدمة الإجبارية في جيش الكيان).. الأمر الذي يؤكد أن الوطنية، كما الخيانة من قبل البعض لا يرتبطان بدين أو مذهب أو طائفة. أما النواب العرب في الاحزاب الصهيونية فهم أيوب الفرّا على قائمة الليكود، وهو درزي يعيش في دالية الكرمل، زهير بهلول على قائمة المعسكر الصهيوني وهو إعلامي يعيش في عكا، حمد عمّار درزي من شفاعمرو على قائمة حزب ليبرمان «إسرائيل بيتنا». للعلم النازي الحاقد ليبرمان صرّح مرارا «بأنه يتوجب قطع كل رؤوس العرب بالفؤوس»، في تطوير لاساليب «داعش» في الذبح، بالتالي ما الفرق بينهما؟ إنهما من المدرسة نفسها. نعم الأرقام تتحدث عن نفسها. 
أما في ما يتعلق بالجزء الثاني مما ورد في عنوان المقالة حول التنكر للتاريخ فالمقصود هو التنكر للتاريخ النضالي الشخصي. نعم كثيرون ممن جعلناهم أيقونات نضالية… باعوا ماضيهم وتاريخهم « من أجل حفنة دولارات – عنوان الفيلم المشهور من بطولة جوليانو جيما». يدرك هؤلاء أو لا يدركون أنه لا أموال الدنيا ولا كل البريق الأصفر ولا الجاه والمناصب تعادل موقفا نضاليا واحدا.. فالحياة مواقف أولا وأخيرا. جرى إعدام لوركا وهو يغني وينشد أشعاره في المقاومة. كم تعذّب ناظم حكمت.. وكم غيرهما من المثقفين ظلوا على مبادئهم.. لم ينحنوا لعاصفة ولا لعدو ولا لمنصب… هؤلاء مخلّدون في التاريخ.
يبقى القول، لا تنطبق القاعدة اللينينية «النضال ولو في البرلمانات الرجعية» على صراعنا مع عدونا الصهيوني العنصري الفاشي، الاقتلاعي، الإحلالي.. (قد تصلح القاعدة للنضال في إحدى الدول التي تعاني حكما ديكتاتوريا مؤقتا… لأن مطلق قاعدة نظرية وفقا للتفسير الماركســــي لها.. يتوجب أن تؤخذ في سياقها التاريخي وفي ظروفها المحددة والمحيطة). إن عدونا لا تنفع معه سوى لغة المقاومة والقوة، وليس «نضال الخطابات» في الكنيست الصهيوني. فلسطين هي حقنا التاريخي.. آجلا أو عاجلا سيحمل العدو عصاه على كاهله ويرحل.. من أرضنا.. من برّنا.. من ملحنا… من جرحنا.. وسيخرج مهزوما مثل كل الغزاة الآخرين. وإلى اللقاء في مقالة قادمة.