ادعاء المعرفة ونشر الإشاعة وجهان لعملة واحدة

حجم الخط
اللقطة الذكية التي عرضت على الفضائية الفلسطينية قبل عدة أيام هي من نوع "الكوميديا السوداء "، ولا بد أن كل من شاهدها انتابته مشاعر مختلطة، وتنازعته رغبة عارمة في الضحك المبلل بدموع الحزن والغضب. مشهد قصير تدور فيه عين الكاميرا في شوارع إحدى مدن الوطن ويتم طرح السؤال على من وجدتهم من المتجولين في الشارع عن رأيهم في أداء الوزير "محمد حجة"..! وكما العادة لم يقصر الشباب في الإدلاء بدلوهم في موضوع الوزير آنف الذكر، فمنهم من اعتبر الوزير المذكور جيد الأداء، والبعض الآخر لم يكن راضيا عنه تماماً، وفريق ثالث التمس له العذر على أدائه باعتباره كغيره من المسؤولين الذين ليس بيدهم شيء.. الى غير ذلك من المفردات التي تصفه بالمخضرم والمناضل الخ الخ.. والحقيقة المرّة انه انطلى على جميع من التقطتهم الكاميرا عدم وجود وزير في الحكومة الراهنة يحمل الاسم المطروح في السؤال على جماعة "أبو العريف"، الذين يسهل انقيادهم واقتيادهم إلى المصيدة، لأنهم لا يعيرون اهتماماً للحقيقة ويظهرون القليل من الاحترام لأنفسهم وللرأي العام على حد سواء لدى ادعائهم المعرفة في شيء يجهلونه، وتعتقد هذه الفئة انها بذلك قد تنجح في تحويل أوهامهم إلى حقيقة، بل يختلقون ويروجون المعلومات لإثارة البلبلة ويضغطون لكي تتحول أهواؤهم إلى رأي عام. وفي هذا السياق استذكر المقابلات التي أجراها أحد الصحافيين النشطاء، قبل عدة سنوات، مع بعض المشاركين في المظاهرة الحاشدة الغاضبة في غزة، سائلا عن سبب تظاهرهم وعن مدى اطلاعهم على مشروع قانون العقوبات الذي يطالبون بوقف نقاشه في قراءته الثانية بتهمة تشجيعه الزنا، فكانت الصدمة ان جميع من تم استطلاعهم لم يكونوا قد قرأوا مسودة القانون، بل كانت معلوماتهم نقلا عن أو قيل لهم وسمعوا بذلك..! والملفت أن الكاميرا الذكية قد ركزت على العنصر الشاب في الشارع، وهي محقة في استهدافها لتلك الفئة في المجتمع، التي يفترض بها أن تتسم بالحيوية والرغبة في البحث والتقصي عن المعلومة، ونظراً لتفاعلها مع الشأن العام، وتأففها المعلن من تعرض قطاع الشباب للتهميش والإقصاء عن شتى أشكال المشاركة السياسية. وبدون شك أن اللقطة الذكية كشفت ما يعتور فئة الشباب من إشكالية معرفية عميقة مثلما كشفت عن ما ينتشر في المجتمع الفلسطيني من ظواهر سلبية، وفي مركزها ظاهرة اتساع نطاق شريحة الأشخاص الذين يدعون المعرفة والذين نطلق عليهم لقب "أبو العرّيف" من الذين لا تخفى عليهم خافية. "أبو العريف" شخص موسوعي شامل ؛ فهو إعلامي ومحلل سياسي، وكذلك عالم في الاقتصاد والاجتماع والقانون والدين واللغات. والخطير في الأمر ليس في اتساع نطاق فئة "ابو العريف"، بل لأن هذه الفئة لها تأثير كبير في المجتمع الفلسطيني ولا سيما ان المواطن في قنوط مطبق، أو أنه لا يتابع ولا يبدي اهتماماً بما يجري حوله من أحداث. كما أن خطورتها تكمن بأنها تجد آذانا صاغية سواء من المستهدفين بالشائعة أو غيرهم من غير المستهدفين بها، فهؤلاء لا يهمهم من يضللون أو مدى تأثير وانعكاس ما يقولونه على المجتمع، وتحديدا في بلد تتالى به الأحداث وتتدافع وتأخذ مسارات دقيقة وحساسة ذات أبعاد خطيرة. المقابلات التي أجراها التلفزيون لم تكشف فقط ظاهرة ادعاء المعرفة وانعكاسها السلبي على المجتمع، بل تعدت هذا لتطرح على بساط البحث لا مبالاة المواطن بما يجري حوله من أحداث صغيرة كانت او كبيرة، مشيرة إلى أن مثل هذا السلوك السلبي يترتب عليه إشكالات أكثر تعقيدا و خطورة تتجلى في تعميق أزمة المعرفة وانتشار الإشاعة، بديلا لليقينية القائمة على أساس المعلومة المدققة التي تشكل أساسا للقاعدة التي يمكن البناء عليها في اتخاذ المواقف والآراء. إن الإجابة الصريحة عن التداعيات التي تخلقها هذه المشاهد، بشكل فاقع ودون تورية، هي في عملية تجيير الجهل فقط لأصحاب الفكر الشعبوي التحريضي. ان الاعتراف بمحدودية المعرفة أسلم من التشدق بمعرفة غير موجودة أصلا، وان كلمة بسيطة ككلمة "لا أعرف" هي أسلم من الأضرار المادية والمعنوية الذي ينتجها الإدعاء والتلفيق ونشر الإشاعة وإثارة الضغائن والبلبلة والفتنة. وفي ذات الإطار فإن العناصر من ذات فئة "أبو العريف" من الذين يحتلون مواقع قيادية وعامة، هي أكثر خطورة على البلد ومستقبله وبما يتطلب الانتباه لها ومراقبة مضارها والتصدي لآثارها ومجابهتها..