ثقافة المقاومة... وثقافة البؤس!

حجم الخط

"هنالك رجال ينبتون الآن في أرض المسؤولية كما ينبت الشجر في الأرض الطيبة حريصون على إعادة المجد للكلمة" (غسان كنفاني).

في اللحظات والمحطات الحاسمة في التاريخ... سواء كانت تدفع نحو التغير الاجتماعي أو السياسي... وسواء كانت لمواجهة احتلال أو هيمنة استعمارية... أو كانت هجوما فكريا ظلاميا على الأمة أو الشعب... في مثل هذه اللحظات ترتبك المعادلات وتختلط الأوراق حيث تدفع القوى النقيضة أو المعادية لمصالح الأمة أو الشعب بكل ما لديها من طاقة لاحتلال وتشويه الوعي العام وهز ثقته بذاته بهدف تبرير المشاريع السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي تيسر لتلك القوى السيطرة والهيمنة سواء كانت هذه الهيمنة هيمنة طبقية داخلية أو هيمنة استعمارية... 
لهذا فإن مشاريع السيطرة الطبقية أو الإستعمارية أول ما تستهدف وبصورة مباشرة ركائز ثقافة الأمة التي تعبر عن وحدتها وتماسكها وكرامتها ووعيها لذاتها ولهويتها... لذلك فإن الوعي الجمعي في مثل هذه اللحظات الحاسمة يتجه فورا إلى حقل الثقافة... تتجه الأنظار إلى النخب الثقافية وإلى المثقفين... حيث ينتظر العقل الجمعي والوعي الجمعي ويراقب رد فعل ومواقف هؤلاء المثقفين... الذين من المفروض أن يكونوا الأقدر والأسرع على بلورة اتجاه وركائز المقاومة الثقافية والتصدي للغزو الثقافي وحماية الوعي الجمعي... 
هذا بالضبط ما عناه غرامشي بمفهوم "المثقف العضوي" أي المثقف الذي يحمل مشروعا اجتماعيا وسياسيا وفكريا تقدميا جوهره حماية مصالح الأمة التي جوهرها مصالح الطبقات الأكثر انتاجية في المجتمع.. ولهذا فلا يوجد ثقافة فوق الطبقات... فالثقافة دائما طبقية وكل طبقة سياسية – اجتماعية مهيمنة تأتي ومعها منظوماتها الثقافية التي تبرر مشروعها السياسي الاجتماعي الاقتصادي. 
والمثال الأوضح على مثل هذا التحدي ما يتعرض له وعي المجتمعات والشعوب العربية والمواطن العربي منذ بدأ مشروع سايكس بيكو مرورا باغتصاب فلسطين وصولا إلى ما يسمى الربيع العربي من غزو شامل توظف فيه أضخم وسائل الإعلام ومليارات الدولارات إلى جانب الضغط الاقتصادي والعسكري والاستخباري... وهو يستهدف تفكيك بنى الأمة ووحدتها الاجتماعية وتسعير تناقضاتها الداخلية من خلال تظهير الثقافة القطرية والطائفية والإثنية... كشرط أساسي لمرور مشاريع التمزيق الجغرافي وفرض الهيمنة السياسية والاقتصادية وهذا غير ممكن بدون إطلاق ديناميات الشك وتشويه الوعي وضرب جوهره المرتكز لوحدة المصير والكرامة القومية، وفي ذات الوقت تكريس الشعور بالعجز والدونية والاستلاب وبأن العقل العربي هو عقل متخلف جينيا ووراثيا... وأن البديل الوحيد هو الرضوخ للهيمنة والسيطرة الأجنبية بما يذكرنا " بنهاية التاريخ" لفوكوياما.
الآن تحتاج الأمة والشعوب العربية لمثقفيها وفلاسفتها الذين يحمون روحها ويتصدون بلا هوادة لهذا الغزو الإرهابي التدميري العسكري والاستخباري والاجتماعي والسياسي والثقافي ... الآن في مثل هذه المواجهات الكبرى حيث تخوض الشعوب العربية وجيوشها الوطنية مدعومة من قوى المقاومة الحية مواجهة طاحنة في سورية والعراق ومصر واليمن والجزائر وغيرها... تتجلى أهمية المثقفين والثقافة...
بطبيعة الحال هي مرحلة فرز لا تحتمل المواقف الرمادية الملتبسة... هي مرحلة تعكس بالضبط الفكرة الأروع لناجي العلي.. أبيض أو أسود... وهي ذات الفكرة التي عبر عنها ولكن من الجبهة النقيضة الرئيس الأمريكي السابق جورج دبليو الأبن حين قال: من ليس معنا فهو ضدنا...! 
لقد كشفت المرحلة الثقافة الصفراء...الاستهلاكية الوهمية، وكشفت أشباه المثقفين والأدوات الثقافية التي جاهدت القوى الاستعمارية لفرضها في مجتمعاتنا باسم "الديمقراطية والليبرالية والإنسانوية" [سقوط الفيلسوف عزمي بشارة واليساري ميشيل كيلو والمنظر صادق جلال العظم وبرهان غليون صاحب كتاب "اغتيال االعقل" وغيرهم الكثيرون]... 
الآن لا مكان للميوعة الثقافية ولا مكان لأرباع المثقفين.. فإما أن يكونوا في جبهة المقاومة الثقافية أو لايكونوا... هذه المقاربة لا تعني الحجر على النقد السياسي والاجتماعي والفكري والاقتصادي بل على العكس تستدعي إطلاق أعلى طاقة فكرية وثقافية لبلورة البدائل والدفاع عن خيارات الحرية والاستقلال والكرامة الوطنية/ القومية وحماية ثروات الأمة والعدالة الاجتماعية... ولكن من على قاعدة الوقوف بلا لبس أو مساومة في خط المقاومة ... وغير ذلك هو بؤس المثقف وثقافة البؤس ... وتسليم روح الأمة والشعب لسكاكين الذبح الفكري والجهل والخضوع وتقسيم الأوطان والشعوب... وبكلمة ليتذكر الجميع أن ما تدفعه الأمة العربية الآن هو نتاج مشاريع استعمارية بدأت منذ بدايات القرن الماضي... ليتذكر الجميع المرحلة العثمانية ومرحلة تقسيم الوطن العربي... وليتذكر الجميع مشروع اغتصاب فلسطين... ليتذكر الجميع دور ووظيفة الرجعيات العربية كأنظمة خاضعة ... لنتذكر كل ذلك ونحن نخوض في الشأن الثقافي حتى لا نكرر الأوهام بنوايا العزيزة بريطانيا والآن نوايا العزيز "اليانكي" العم "سام"... بما يعني أن الولايات المتحدة وأوروبا العجوز والرجعيات العربية "لا تنام الليل خوفا" على مصالح الأمة العربية وشعوبها... 
الآن هي لحظة المقاومة الثقافية الساطعة التي لا تهادن ولا تساوم على البديهيات... الثقافة (بكافة حقولها) التي ترتقي للطموحات والأحلام والتمثلات الكبرى للشعوب... وهنا ليس المقصود التعبير الميكانيكي... بل الثقافة بما هي ارتقاء بالوعي الجمعي والذوق الجمالي وحماية روح وركائز وعي الأمة والشعب والإنسان من الضياع والتشويه والاستلاب والدونية والأنانية الضيقة... فالثقافة إما أن تكون ثقافة مقاومة بالمعنى الشامل وفي كل حقول الفعل الاجتماعي أو لا تكون... والمثقف الذي لا يحمل روحه قبل قلمه لخوض المواجهة الثقافية التي تدافع عن الأحلام والأمل وتتصدى للقهر والهيمنة ليغادر المسرح... أو لينتقل بوضوح للجبهة الأخرى فهذا لا يلزم أمة وشعوبا تقدم الآن دمها دفاعا عن الحرية والكرامة والاستقلال