فيما يلي الفصل الخامس من كتاب "مداخل لصياغة البديل" للمناضل اليساري د.أحمد قطامش المعتقل منذ أكثر من عام في سجون الاحتلال الصهيوني، وكتاب مداخل لصياغة البديل هو توثيق لجلسات ثقافية ومحاضرات ألقاها قطامش لرفاقه حين كان معتقلا في السجون الصهيونية في أواسط التسعينات.
اليسار و المرأة
من المؤكد أن بعضا منكم قد قرأ رواية "الأم"، حيثما تحولت الأم المقموعة، بيتيا، من قبل الزواج عنيف الطباع، بفعل تأثرها بشخصية ابنها و رفاقه إلى مناضلة عتيدة رغم كهولتها، و هذه القصة ليست مجرد خيال أدبي خصب لغوركي، بل إن لها أساسا واقعيا برع في تصويره في رواية خالدة تطبع باستمرار منذ مطلع القرن حتى اليوم.
و من المؤكد أنكم بغالبيتكم قد طالعتم كتاب "دومتيلا" الثورية البوليفية الأمية التي غدت مناضلة نقابية فزعيمة نسوية و سياسية معروفة على نطاق عالمي بما صحب مسيرتها القاسية و العنيدة من تضحيات غير عادية.
و كلنا سمع عن استشهاد شادية أبو غزالة عضوة حركة القوميين العرب، و فيما بعد عضوة الجبهة الشعبية بينما كانت تعد عبوة متفجرة، أو استشهاد دلال المغربي التي قادت كوماندوز فدائيا على شواطئ تل ابيب، أو التعذيب الوحشي الذي تعرضت له رسمية عودة في اعتقالات عام 69… الخ. هذه نماذج تعمدت استعراضها أمامكم لشد الانتباه لموضع هام، هو اليسار و المرأة، فصباح الخير، و كلكم تصغون كما ألاحظ.
في هذا اليوم إننا لا نتطرق لقضية جزئية أو هامشية، بل نتطرق لقضية مركزية تخص نصف المجتمع و تشمل بتاثيراتها المباشرة و غير المباشرة المجتمع بأسره. غذ لا يمكن تصور مجتمع معافى _ نصفه غير معافى، مثلما لا يمكن تحقيق حرية و كرامة المرأة بدون تأمين الحرية و الكرامة للمجتمع، شأن الأسرة بالضبط، فهل يمكن أن نتخيل مناخات تربوية و نفسية مريحة لأطفال بينما أمهم متعبة نفسيا ومضطهدة اجتماعيا؟! و هل نتخيل زوجا سعيدا في بيته بينما زوجته غير سعيدة في بيتها.
و نحن حينما نتعرض لقضية المرأة، إنما نتعرض للأم والأخت و الابنة و الجدة و الخالة و العمة، أي أمي و أمك، ابنتي و ابنتك، أختي و أختك، للمرأة المناضلة و المعلمة و العاملة و ابنة الشهيد و زوجة الأسير. عن نساء بلدنا و نساء أمتنا و نساء البشرية قاطبة، أي ليس عن روبوتات و لا عن مخلوقات وهمية أو قطعة أثاث صماء أو حفنة تراب بدون إحساس.
و المبدأ الأساسي في المنظور اليساري هو رفض الاضطهاد الجنسي، أي اضطهاد الرجل للمرأة و التمييز ضدها تمشيا مع الرؤية اليسارية العامة التي لخصها لينين بالقول "إننا ضد كل الاستغلالات والاضطهادات، سواء كان الاستغلال طبقيا أو اضطهادا قوميا أو اضطهادا جنسيا أو اضطهادا دينيا".
و طبقا للتحليل اليساري للظاهر على أساس بعدها التاريخي و ظروف تكونها و حركتها، فإن الظلم الذي أحاط بالمرأة قد نشأ عن معطيات معينة، بزوالها يزول الظلم و تتحقق المساواة الكاملة بين المرأة و الرجل.
و كلكم لا بد أنه درس شيئا عن المجتمع الأمومي القديم في الجماعيات الأولى، و الذي لم تنفك بقاياه الحية لهذا اليوم في بقاع عدة من العالم، كما القبائل في غينيا الجديدة، و قبائل في أقاليم هندية، و في قلب الغابات البرازيلية و الأفريقية حيث ينسب الأطفال للأم ذلك أن الأب غير معروف، مثلما تحظى الأم بمنزلة خاصة حتى أن بعض الرسومات القديمة تشير إلى وضع المرأة في مكان متقدم على الرجل، حيث ينحني الثاني لها و يعبدها ضمن اعتقاد أنها خالقة للحياة و هذا أيضا نلحظه في الأسماء الأنثوية آلهة الإغريق قبل آلاف السنين.
و لكن مع نشوء الملكية الاقتصادية الخاصة بالنظر إلى تطور قوى الإنتاج، حينما أصبح يتشكل فائض استأثر به الأقوياء و زعماء القبائل، تراكم مع الانتقال من حياة الصيد إلى الحياة الرعوية و الزراعية، غدا الرجل يحرصون على توريث أبنائهم و ليس أبناء سواهم ثرواتهم و التمتع بها، فأخذوا يربطون عددا من النساء بهم دون غيرهم، فظهرت العائلة البطريركية التي يقودها الرجل.
و لئن كان عمر الإنسان كما تشير الاكتشافات العلمية نحو 5 ملايين سنة، فمنذ آلاف من السنين فقط عرفت الإنسانية العائلة الأحادية، أي امرأة لرجل واحد، و رجل واحد لعدة نساء كما هو واضح في كتابات الأنثروبولوجيا و علم التاريخ سيما الحضارات القديمة كالفرعونية و الصينية و ما بين الرافدين و الإغريق. و في البدايات كان يخص الرجال الأغنياء أنفسهم بالعديد من النساء، و بتدرج تم حصر النساء.. و التوراة عل سبيل المثال، أي منذ أقل من 2600 سنة، تفيد بان الملك داود تزوج من مائة امرأة بينما ابنه الملك سليمان، الذي بنى الهيكل، تزوج من ألف امرأة، 300 منهن من الجواري و 700 من السرار و السيدات.
و تاريخ المنطقة في تلك الفترة نموذج انتقالي للعائلة البطريركية التي تطورت بتدرج إلى أن تحقق الزواج الأحادي المكتمل، أي رجل واحد لامرأة واحدة بدون تعدد زوجات، كما المجتمع المعاصر الذي باتت قيمته لا تتقبل تعدد الزوجات أيا كانت تخريجتها سواء من وجهة نظر المجتمع أو من وجهة نظر المرأة ذاتها.
و بداهة إن وضع المرأة اليوم و حقوقها هما أفضل بما لا يقاس من وضعها و حقوقها حينما كان يستولي الرجل على العديد من النساء تحت عنوان الجواري و الزوجات و السبايا، فلم تكن مجرد أداة للرجل فقط، تتعرض للضرب و البيع و مصادرة أبنائها، و أيضا كان ينظر لها كشيطان يغوي و يضلل الرجل، و هذا واضح في سفر التوراة الذي يتحدث عن تغرير الأفعى لحواء لكيما تأكل التفاحة المرحمة، فيما حواء قامت بإغراء آدم، فتناول تفاحة أيضا خلافا لتعليمات الرب، فغضب الأخير و طردهما من الجنة و قال حسبما جاء في التوراة "ستلدين في الآلام و تموتين في الآلام" للدلالة على خطيئتها، بل و حينما تلد ذكرا تكون إجازتها شهرين و حينما تلد أنثى تكون إجازتها شهرا واحدا، بينما بعض الاتجاهات المسيحية تحرم على رجل الدين الزواج أو إقامة علاقة جنسية مع المرأة ناظرين لها كدنس و مصدر شر، و التمييز في الإرث و إن كان متفاوتا بين الديانات سواء كانت اليهودية أو المسيحية أو الإسلام، غير أن حقوق المرأة تبقى أقل من حقوق الرجل، زوجة كانت أم ابنة أو أختا. و في الديانات الثلاث الأطفال ينسبون للأب الذي من حقه الاستئثار بهم في حالة الطلاق، بينما المجتمعات المتطورة اليوم تناقش محاكمها أهلية الأب و أهلية الأم و رغبة الأطفال و بعدها تقرر أين يعيش الأطفال مع نظام للزيارة و الترويح سواء إلتحق الأبناء بأمهم أو بأبيهم.
و في المجتمع البدوي و القبائلي غلبت النظرة الدونية للمرأة، فهي أدنى سواء في دورها الاقتصادي حيثما احتجزت في الخيام و الكهوف للطبخ و الإنجاب، كما استثنيت من المشاركة في تقرير الشؤون العامة كالحرب و الترحال،،، و كانت عرضة للسبي و الاغتنام، فالقبيلة التي تنهزم في الحرب تغتنم القبيلة المنتصرة ممتلكاتها و نسوتها و يجري توزيع كل ذلك على المحاربين و القادة بدون أدنى احترام لكرامة و إرادة المرأة، و تكرست القيم الذكورية التي ترى المرأة كعنصر ضعيف و عاطفي و جاهل لا يصلح غلا للبيت.
و في المجتمع الزراعي _ الإقطاعي، كما المجتمع التجاري _ الضريبي، بما صاحبه من بداوة، الذي عرفه التاريخ العربي، سيما في الجزيرة منذ ألف سنة و يزيد، سادت نظرة متشابهة للمرأة مع بعض التحسين، فهي لئن استمرت حبيسة البيت و تحت سلطان الرجل، أبا كان أم زوجا، غير أن مشاركتها في الحياة الفلاحية الزراعية أعطتها بعض الحقوق و التأثير مثلما أن العوائل الأرستقراطية الإقطاعية و العوائل التجارية أخذت تعلم بناتها خصوصا في ميدان التهذيب الذي يتلاءم مع حياة النبلاء كما في ميدان الموسيقى و الشعر و ركوب الخيل، ليفسح هذا المجال فرصا محدودة للاحتكاك و المعاشرة بين الجنسين و بالتالي التحابب و الزواج، علما أن المرأة في العصر الإقطاعي عانت من عذابات جديدة مثل بتر "البظر" الذي هو العضو الجنسي الأهم لديها، كما حزام العفة الحديدي الذي يغطي وسطها أثناء غياب زوجها.
أما المنعطف الراديكالي الذي قلب وضع المرأة رأسا على عقب فهو الثورة الصناعية _ البرجوازية حيثما تطلبت الحياة الإنتاجية اليد العاملة للمرأة التي كان عليها أن تتعلم، و أن تكتسب المهارات المهنية لكيما تستجيب لمتطلبات العمل بما استوجبه ذلك من فهم جديد للمرأة بأنها قوة إنتاج بناءة و طاقة فعل و عقل مقتدر، لتفسح بالتالي ظروف التعليم و العمل لها، و للرجل القدرة على الاختيار و الحب على نطاق واسع، و هذا كله أكسبها ثقة بالنفس فأخذت تدعو للمساواة مع الرجل على أساس الأجر المتساوي للعمل المتساوي، و تبوء المنصب بناء على الكفاءة و تأسيس الجمعيات النسوية التي تقوم على توعية و تنظيم النساء كمقدمة فتحت المجال لمشاركتها في الحياة السياسية، حزبية كانت أو برلمانية، حيثما لاحظناها و قد صوتت في بداية القرن في فرنسا، و في أوائل العشرينيات في أمريكا، ليعمم حقها في الانتخاب لاحقا في ارجاء العالم، بل و لتغدو هذه الأيام تشكل 46% من قوة العمل الامريكية، و نسبة قريبة من ذلك في اوروبا و اليابان و الصين، و نحو 48% في الاتحاد السوفييتي السابق، فيما كانت بين 70 – 72% في القطاعين التعليمي و الطبي، فضلا عن اختراقها كل هياكل المجتمع و الاقتصاد و الثقافة و الفن. حتى أنها كانت تشكل 27% من عضوية الحزب الشيوعي السوفييتي السابق، و أقل من ذلك بقليل في المجالس السوفييتية، و لها حضورها في برلمانات العالم الرأسمالي المتطور كما في الحكومات، حتى أنها بلغت رئاسة الحكومة في الهند و سيرالانكا و الباكستان و تركيا و كندا و فرنسا و وزيرة هنا و هناك، و احتلت مناصب كبيرة في سلك القضاء و التعليم الجامعي و الأدبي و الفن و مختلف ميادين الحياة، مثلما أنها شاركت في نضال حركات التحرر الوطني حيث برزت ذوات الشعر الطويل في فيتنام، كما الثورة الجزائرية و الصينية، و دور معقول في نضال الشعب الفلسطيني و اللبناني و السلفادوري و جنوبي أفريقيا، و باتت شريكا فعليا في الحركات السياسية الديمقراطية لها نسبتها و فعلها التي يصعب تصور هذه الحركات بدونها.
و قصارى القول لقد قطعت المرأة شوطا كبيرا جدا، من الاستلاب إلى الشريك الكامل في صنع التاريخ و مستقبل البشرية كدليل قاطع على أن الفارق الفسيولوجي بين تكوين الرجل و المرأة، حيثما يفترقان جزئيا و يتقاطعان على وجه العموم، لا يجعل من الرجل أقوى من المرأة أو المرأة أقوى من الرجل في الميدان الذهني و العمل البناء، ذلك أن العصر لم يعد عصر العضلات و السيف، بل عصر الصناعة و الكمبيوتر و الثقافة و الطاقات العقلية و المهنية.
و عموما، من الناحية البيولوجية الصرفة، إن ما يحدد جنس المولود هو عدد الكروموسومات التي يحويها الحيوان المنوي الذي يلقح البويضة، فإن كان يحوي 23 زوجا من الكروموسومات كان الجنين أنثى و لئن كان 22 زوجا و نصف كان الجنين ذكرا، و ثمة نوعان من الحيوانات المنوية فقط، الأول له ذنب قصير و الثاني طويل يتسابقان نحو قناة فالوب في رحم المرأة حيث تمكث البويضة، و حالما يخترق الحيوان غلاف البويضة يتبدل تركيبها الكيماوي و لا تستقبل سواه.
و قد أثبت علماء الطب أن الكروموسوم الإضافي للأنثى يزودها بمناعة بحيث تكون حصانة المولود الأنثى أعلى منها لدى المولود الذكر في البدايات.. أما الصفات الفارقة كاللون و نوع الشعر و الهيكل و الطول، فهذا إنما تحدده الجينات كنتوءات تتوزع على الكروموسومات.. و يرفض العلم النظريات الشوفينية و العنصرية التي تعتقد زورا بأن دماغ العنصر الأبيض أرقى من دماغ العنصر الأسود أو أن دماغ الرجل أرقى من دماغ الأنثى، بل لقد دحضت مسيرة التاريخ هذه الأكاذيب حيث برز السود و المرأة في مختلف حقوق الحياة الأكثر تعقيدا، و كما أن البيض يتفوقون على بعضهم بعضا و يتفوق بعضهم على السود، فإن السود يتفوقون على بعضهم بعضا و بعضهم يتفوقون بعضهم على بعض البيض، و هذا حال الرجل أيضا حيثما يتفوق الرجال على بعضهم بعضا و يتفوق يعضهم على بعض النساء، الشيء ذاته يقال عن مجتمع النساء حيث يتفوق بعضهن على بعض و يتفوق البعض منهن على بعض الرجال.
أي لقد أسقطت كل الخزعبلات في هذا الصدد و دحرت تماما من الناحية العلمية، و المسألة كلها مرهونة بالظروف التي يعيشها الإنسان، و لهذا السبب أصاب ماركس حينما أنشأ يقول "إذا كانت الظروف هي التي تخلق الإنسان، علينا أن نخلق ظروفا إنسانية"، مما يجعلنا كثوريين عقلانيين يساريين نتبنى موقفا منصفا و تحريريا للمرأة نظريا و عمليا، بل و من الصعب أن يكون المرء ثوريا في الميدان السياسي على سبيل المثال بينما هو استغلالي على صعيد طبقي، و رجعي على صعيد اجتماعي حيال المرأة و متخلف على صعيد الذوق الفني… الخ.
فهذا إنما يدل على عدم إتساق في شخصيته بل إنه يجمع عدة شخصيات في آن، بينما الاتساق و التجانس في الشخصية الثورية يوحدان نسغ الثوري و وعيه و سلوكه، و عليه يتوجب أن نتحرر من "إنبش قشرة الثوري في موضوع المرأة تكتشفه رجعيا عفنا" كما كتب لينين.
بل ليس مبالغة القول بأن مقياس تطور الشعوب يقدر بمدى تحرر المرأة و مشاركتها في الحياة العامة، ناهيكم أن الثورات المعاصرة لا تنتصر غلا بقدر مشاركة النساء فيها، و هذا لمسناه لمس اليد في السنوات الأولى للجيشان الانتفاضي حينما انخرطت النساء الفلسطينيات على نطاق واسع في التظاهرات و المصادمات و المناشطات العديدة جنبا إلى جنب مع الرجل، و هذا كان ملحوظا بصور أجلى و أوسع في الثورة الفيتنامية، بل ما كان ممكنا انتصار شعب فيتنام الصغير على الاستعمار الفرنسي و من بعده الاستعمار الأمريكي لولا تحشيد كل طاقاته من رجال و نساء في شتى الميادين.
و ربما أعداد من الناس لا يعجبهم ما أنجزته المرأة من تقدم، بل و قد يتذرعون بظواهر الانفلات الجنسي في العالم الرأسمالي، ككلمة حق يراد بها باطل، لإعادة عجلة الزمان للوراء، و حجر المرأة في البيت كماكينة "تفريخ للأطفال" و تربية النشء الجديد و التعبد في الكنيسة، كما خطب هتلر، غير أن هذا شيء مستحيل، إذ حتى لو حصلت ردة سياسية لا يمكن إعادة عجلة التاريخ للوراء فالمرأة غدت متعلمة و مثقفة و منتجة و جزءا صميميا و بنيويا في المجتمع المعاصر، و لن تستطيع أي قوة قهرها و معاملتها كما الإماء و الجواري أو كما لو كانت عورة، بل على العكس أن الرسم البياني يشير إلى تزايد نسبتها في الجامعات و العمليات الاقتصادية و السياسية و الفنية، ليس في العالم التكنولوجي المتطور فقط، بل و في العالم المتخلف النامي ايضا، و هذا نراه حتى في واقعنا الفلسطيني، ففي الأراضي المحتلة تشكل المرأة 12% من قوة العمل بالأجرة، ناهيكم عن مساهمتها في الزراعة الفلاحية، بدون أجرة و عدد صفوف الثانوية يتزايد، و الأمر نفسه ينطبق على المعاهد و الجامعات، و اللباس العصري باختيار المرأة ينتشر أكثر فأكثر، و تعدد الزوجات يتقلص أكثر فأكثر، و تتبلور حركة نسوية ترسي أطرها هنا و هناك، و تنخرط بملموسية أوضح في النضال التحرري… الخ و هذا كله يتماشى مع قانون التطور العالمي.
و رغم هذه المسيرة الصاعدة التي لا يمكن حجزها و إيقافها لم تنفك تعاني المرأة من اضطهادات عدة، بل إنها مضطهدة المضطهدين كما قال الثوري الألماني "بيبل" و هي البروليتاريا في البيت فيما الرجل هو البرجوازي الاستغلالي كما ذكر انجلس، و يمكن تلخيص اضطهادات المرأة في بلادنا بما يلي:
1- اضطهاد قومي:
فهي تخضع كما الرجل لقهر الاحتلال الصهيوني الذي اجتث شعبنا من أرضه و شرده و هود أرضه و يمارس القمع و البطش المنظم ضده، و نساء العالم لا يعانين ما تعاني المرأة الفلسطينية بهذا الصدد. و هذا الاضطهاد لا يزول غلا بالاستقلال الناجز.
2- اضطهاد طبقي:
من قبل الرأسمالي الاستغلالي، و هذا يشمل النساء العاملات حيثما تستغل كشغيلة كما الرجل الشغيل، و تستغل كامرأة لأنها تتلقى أجرة اقل و لا تمنح فرصا متساوية للرجل في القيادة و التسرب للوظائف الهامة، و حقوق المرأة العاملة في العالم المتطور، علما أنهما يتساويان في جوهر الاستغلال. طبعا لقد أحرزت المرأة في البلدان الاشتراكية السابقة و البلدان الاشتراكية القائمة منجزات أكبر، و على الأقل تحققت العدالة الاشتراكية بإزالة الاستغلال و الطبقات الرأسمالية التي تستغل الشغيلة نساء و رجالا… و الاستغلال الطبقي للمرأة و الرجل لا يزول بإزالة علاقات الإنتاج الرأسمالية و حلول الاشتراكية حلها.
3- اضطهاد اجتماعي ذكوري للمرأة:
و هذا يقع عليها وحدها و يمارسه الرجل ضدها من خلال قيم بالية و نزعة متسلطة، و تعامل دوني معها، و تجليات هذا الاضطهاد عديدة جدا، و وطأتها على المرأة لا تقل عن وطأة الاضطهاد القومي و الاستغلال الطبقي.
فمنذ الولادة يحبذ الأهل الذكر على الأنثى، بل و عرف التاريخ العربي القديم وأد البنات، أي دفنهن و هن أحياء، ليتلو ذلك التمييز في التربية البيتية حيثما تفرض القيود و التحريمات على الطفلة، فيما تمنح فرص الحركة و الاختلاط للولد، و هذا يستمر في التعليم المدرسي، حتى أن الألعاب التي تتوافر للذكور ذات طابع عقلي بينما للإناث ذات طابع تقليدي، فيما الأهل يوفرون فرص التعليم في حالة الاختيار بين الابن و الابنة للذكر سيما في التعليم العالي، أي يجري إعداد الابن لمعترك الحياة فيما يجري إعداد الابنة للحياة الزوجية كأم و حسب!
و بينما تتسامح التقاليد مع الشاب في حالة أن ينسج علاقة حبية مع فتاة و تتسامح مع حقه بالتعارف و الاختيار قبل الزواج، تتعامل بتزمت و قهر مع المرأة إن حاولت استخدام نفس الحق، بل و قد تتعرض للضرب و التخويف مع أن الزواج من أخص خصوصيات المرأة، فتجد نفسها بدون تعارف و معاشرة و اختلاط مجبرة على الموافقة على هذا الذي يطلب يدها أو ذاك، كما لو كانت سلعة لا إرادة لها، فالزواج المدبر هو الاسئد في مجتمعنا، و لم تفلت منه غلا أوساط محدودة و سيما في أوساط المثقفين و المثقفات أو الذين يقيمون علاقات حبية سرية واسعة الانتشار، ناهيكم عن زواج البدل الذي تقايض فيه المرأة بامرأة أخرى من أجل تزويج شقيقها و بعد الزواج لا يتم التعامل المتكافئ بين المرأة و الرجل، بل الرجل هو السيد و المرأة هي التي تلبي الرغبات و تتكيف معها، فالنظر لها بأنها خرجت من ضلع الرجل كما جاء في التوراة، و أنها لا تملك حنكته و قوته و… بل عليه اأن تلبي رغباته الجنسية حتى لو كانت الرغبة من طرف واحد، أما في حالة الخلاف حول أي موضوع فعليها أن تنصاع، و أن لم يكن بالكلمة فباليد، و حينما يغلب على أمرها تلجأ لبيت أهلها (تحرد)، و إن تفاقم الخلاف يتزوج الرجل من امرأة أخرى، فيمنح الأولى الطلاق أو يبقيها معه، أما الأطفال فهم من نصيب الأب بل و إن قسى عليها يحرمها من اللقاء بهم، و البعض في مجتمعنا يتعاطى حتى اللحظة مع تعدد الزوجات، سيما الرجال المقتدرين ماليا متجاهلين السحق المعنوي و التدمير الروحي الناتج عن ذلك للمرأة الأولى، طبعا بعض النسوة يستسلمن لذلك، حفاظا على بقائهن قريبات من أبنائهن، ناهيكم عن التدخل أحيانا و بأسلوب قسري لفراض لباس معين عليها بدون قناعة منها، على أرضية أنها كتلة جنسية و مادة إثارة تحاسب ملابسها بالسنتمتر، و الخطورة هنا في زاوية النظر للمرأة، أي ليس على أساس أنها إنسان مساو للجرل لها ما له و عليها ما عليه في كافة الميادين، بل تنحصر المرأة في بعد واحد مبالغ فيه.
طبعا يفترض فتح المجال للتعددية، فمن ترغب باللباس التقليدي فهذا خيارها، و من ترغب باللباس العصري و المظهر العصري فهذا خيارها بدون اتهامات و تسلط، و التسريح و الماكياج هما جزء من الزينة لمن تشاء من النساء شأن حلاقة الشعر و الذقن لدى الرجل… و كلكم يعلم أن اللباس و الشعر لا يحددان أخلاقيات المرأة مثلما لا يحددان أخلاقيات الرجل، و إنما القيم و القناعات الداخلية للإنسان هي التي تقرر سلوكه، و ما علينا سوى زرع بذار محمودة في الإنسان لكيما نحصد ثمارا محمودة منه، و العكس صحيح ايضا، و حرية الاختيار في اللباس لا تعني بداهة تعري الإنسان، امرأة كان أم رجلا، و إنما هو مألوف و منتشر و حسب، آخذين بالاعتبار أن موديلات اللباس متحركة، و أن ما كانت ترتديه العجائز في الثلاثينيات لم تعد كثير من النساء يرتدينه اليوم، بل و هذا الحال ينطبق على ألبسة الرجال أيضا.
و لو لخصت رأيي الشخصي بكلمة واحدة لقلت ما قالته المفكرة سيمون دي بفوار "الزينة و اللباس أمران شخصيان للمرأة و لكن هذا لا يعني أن يتحولا إلى هنا يباع الجنس".. و المسألة بداهة نسبية كلما تطورت أخلاقيات الرجل و تحرر من إنفلاتيته المكبوتة في تقييم المرأة، كلما رآها إنسانا كامل الإرادة، الأمر الذي يحرره من أحكامه المسبقة و المغرضة للمرأة و زينتها، لهذا ليس غريبا أن يكون شعور الرجل الذي ينشأ في وسط متفتح متطهرا من الخيالات المريضة قياسا بالرجل الذي ينشأ في وسط اجتماعي مخنوق.
و أريد أن أختم كلامي بما يلي:
مطلوب منا، نحن الذين نحمل توجهات طليعية و نزعات ثورية و نتسلح برسالة تاريخية لتحرير البشرية من مختلف المظالم، أن نعمل مع المرأة على الثقة بنفسها، و أن نعزز لديها و معها الفكر الثوري المحجوب عنها. فمثلما أن العمال تزودوا بالنظرية الثورية بواسطة المثقفين الثوريين لينتجوا لاحقا قياداتهم العمالية، و بالتالي تحرير أنفسهم بأنفسهم، فإن نفس الآلية واجبة في المسألة النسوية.. و بداهة هناك أرضية مشتركة كبيرة تجمع المرأة المظلومة بالرجل المظلوم كالاضطهاد القومي و الطبقي، و لكن هناك أيضا خصوصية مكثفة للمرأة هي اضطهاد الرجل و القهورات الذكورية الشوفونية لها، الأمر الذي يبيح لها خوض نضال لرفع هذا الاضطهاد عنها.
و هنا ثمة خطران و محذاران، الأول النسووية أي "الفمينزيم" التي تحاول اعتبار الرجل عدوا للمرأة، و بالتالي الصراع معه، ذلك أنه يوجد ما هو نضال شعبنا هي للكفاح التحرري الاستقلالي، بينما المحذور الثاني يكمن في أفكار خصوصية المرأة كما لو كانت لا تشكو من معانيات خاصة تستوجب الدحر حتى في زمن الكفاح التحرري الاستقلالي، بل إنه بدون إفساح المجال للمرأة لكيما تعمل و تختار و تعبر عن نفسها لا مجال لإسهامها في المعركة الاستقلالية.
و عليه أن أفضل بوابة يمكن أن تفضي بمسيرة المرأة التحررية نحو الانتصار، أي التخلص من كل الأشكال الاضطهادية، هي اكتساب الوعي الذي يدعو لتحريرها كشريك كامل في بناء المستقبل و التصدي لهموم المجتمع، و بالتالي انخراطها في العملية النضالية سواء كانت اجتماعية كما اللجان و الأطر و الجمعيات النسائية أو الحركة السياسية و مناشطاتها النضالية كما لاحظنا في زمن الانتفاضة، جنبا إلى جنب مع انخراطها المتزايد في العملية الاقتصادية، أي حقول العمل الإنتاجي و التعليمي و الطبي و الخدماتي. و قد يكون العمل الاقتصادي في ظروف البلدان المتطورة مفتاح تحررها، أي المفتاح الذي يكسبها الثقة و الدور البناء، و بالتالي النضال المشترك، بينما في ظروف البلدان المتخلفة، كما فيتنام أو الصين في عقود النضال الثوري أو تجربتنا الفلسطينية، حيثما تسود البطالة في أوساط النساء، و لا يتاح غلا لنسبة محدودة الالتحاق بالعمل الاقتصادي، يكون المفتاح هو مفتاح آخر سوى العمل الاقتصادي و جنبا إلى جنب معه.
لذا ليس غريبا أن تكون أبرز الزعامات النسائية في مجتمعنا من نسوة نشيطات اجتماعيا و سياسيا كما بارزات أكاديميا و ثقافيا، و هذا يجب احترامه بعمق وتشجيعه بمثابرة.
و كل واحد فينا عليه واجب بأن يكون قوة دفع لتحرير المرأة ليس على نطاق شعبي فقط، بل على نطاق بيتي أيضا، إذ أن في ذلك منفعة متبادلة و راحة بيتية للجميع فأم أو زوجة أو أخت لها شخصية و بأي عمل و وزن و أقل تأثرا بالعادات، و القيود الظالمة هي بلا شك تكون فاعلة في الحياة و شريكا حقيقيا و سندا حقيقيا لكل واحد فينا، أي أن نجاح للمرأة فيه فائدة لها، و هذا ينبغي دعمه بقوة، مثلما أن ذلك يعود بفائدة على المجتمع عموما أيضا.
تصوروا لو أن زوجة كل واحد فيكم منتجة و تستطيع الصرف على البيت، بينما أنت قابعون في السجن، و تصوروا لو أن كل زوجة واحد فيكم لها شخصية قوية و محبوبة تستطيع تحمل أعباء الأبناء و الأهل، و تصوروا لو أن زوجة كل واحد فيكم تزوره على الشبك لتحمل له أخبارا طيبة و مريحة تعكس راحة بالها و استقرار أوضاعها، أو تحمل له أنباء في حقل يهتم به… الخ أليس هذا مثار مسرة لكم يخلق في نفوسكم التوازن و الهدوء، بدلا من الذي نسمعه بين الحين و الآخر، إن أطفالي يجوعون و أبي على خلاف مع زوجتي و لا حل إلا استئجار بيت مستقل لا أستطيع تسديد أجرته، هذه الزيارة حضرت الوالدة و الزوجة، و هما تنوحان بكاء مرا قائلات: هذه آخر مرة تدخل فيها السجن، كما لو كان الكفاح الوطني خطيئة… الخ.
من الجيد أن يحضر كل ذلك في أذهاننا لكي نتحسس بالضبط أهمية اضطلاع المرأة بدورها في شتى المجالات، بل إن قوة الاحتلال قد تضاعفت بفعل مشاركة المرأة و تخندقها في جبهة العدو، فالمرأة الإسرائيلية تشكل 42% من قوة العمل الإسرائيلية، ليس في حقل الأعمال الهامشية فقط، بل إنها فاعلة في كافة الميادين، في الحقل الاقتصادي و العلمي و القضائي و السياسي و … ألم ترون عددا من النساء في الكنيست و قيادات الأحزاب، ألم ترون المرأة في سلك القضاء و في التلفزيون و في المؤسسات البنكية.. ألم ترونها أكاديمية في الجامعات، و تحمل رتبة عسكرية عالية في الجيش و جهاز الشرطة… الخ.
إننا أيها الزملاء لا نفهم تحرر المرأة، كما يروج أعداء المرأة، أي التعري و الانفلات الجنسي الذي يشارك به الرجل أيضا، بل نفهم تحرر المرأة على أساس ما أتينا على ذكره سلف، و نعرف أن هذه المسيرة طويلة شأن المسيرة الوطنية، بل إنها في إحدى حلقاتها جزء منها، و مثل المسيرة الحضارية و الديمقراطية و ما ترتبط بها من إزاحة للشوفينية الذكورية.
و على الدوام من الضروري أن نقتنع بعمق أن طاقات و ذكاء و موهبة المرأة تؤهلها للعب دور يتعدى جدران البيت رغم كل التقدير لدورها كأم و زوجة و أخت في داخل البيت، و على الواحد فينا أن يبدأ بنفسه و أن يجترح نموذجا إيجابيا لسواه.. فكفانا مناضلون و متكرشون ينتظرون من يغسل لهم الجوارب و اللباس الداخلي كباشا متقاعد، و لنتخلص من عفننا الداخلي.
و شكرا