في مقابلة خاصة مع القيادي الغول: الجيل الذي لم يعش بشكلٍ كافٍ تجربة الاحتلال أدرك بوعي فطري ومبكّر أن له دور في مقاومته

حجم الخط

تمر اليوم على الشعب الفلسطيني ستة عشر عاماً منذ اندلاع الانتفاضة الثانية "انتفاضة الأقصى"، كانت شاهدة على نقطة تحوّل في القضية الفلسطينية والشارع الفلسطيني، بعد توقيع اتفاق أوسلو بين منظمة التحرير الفلسطينية والعدو الصهيوني، الذي خلق واقعاً جديداً ترك تأثيراته العميقة ولا زال على حياة الفلسطينيين وقضيتهم الوطنية.

أجرت "بوابة الهدف" مقابلة خاصة مع القيادي كايد الغول عضو المكتب السياسي في الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، تطرّق خلالها لدوافع اندلاع الانتفاضة الثانية، وحيثيّات عسكرتها وتسليحها، ومقارنتها بالانتفاضة الأولى، وتأثير الانتفاضة الثانية على الشارع العربي.

ما رد الفعل الأولي للجبهة الشعبية على زيارة شارون للأقصى التي أدت لاندلاع الانتفاضة؟

بدون شك زيارة شارون للأقصى شكلت الشرارة التي أدت لاندلاع الانتفاضة الثانية، التي كانت عواملها الموضوعية متوفّرة وبرأيي كان هناك منطقين حكما انطلاق الانتفاضة والمشاركة فيها، منطق الشارع الفلسطيني الذي شعر بعدم جدوى ما سمّي بالعملية السياسية والمخاطر المترتبة على الاتفاقيات الموقّعة بعد أن مضى عليها سنوات عدة، وبعد أن اتضحت نوايا الجانب "الإسرائيلي" والراعي الأمريكي لهذه  العملية، وهدفها الجوهري بتصفية حقوق الشعب الفلسطيني وقضيته الوطنية، والشعب بانتفاضته أراد توجيه رسالة معاكسة مفادها بأن خياره كان ولا يزال مقاومة الاحتلال "الاسرائيلي" إلى حين تأمين حقوقه في العودة وتقرير المصير والدولة.

أمّا المنطق الآخر، فقد كان الموقف الرسمي الذي مثّله الرئيس الراحل ياسر عرفات في ذلك الوقت، والذي كان مشجّعاً للانتفاضة وداعماً لها بهدف استثمارها من أجل تخفيف الضغوط الأمريكية و"الإسرائيلية" عليه، خاصةً بعد محادثات "كامب ديفيد" التي اتضح فيها ان "الإسرائيليون" والأمريكان يريدون من الفلسطينيين أن يوقّعوا على تصفية حقوقهم والإقرار بالقدس عاصمة لدولة العدو الصهيوني، وبالتالي سعى الموقف الرسمي لأن يستخدم الانتفاضة أداة في مسار المفاوضات دون مغادرته، ومع ذلك، التقت الإرادة العامة للفلسطينيين بالانخراط في الانتفاضة بغض النظر عن الدوافع من وراء ذلك، مستلهمين بطبيعة الحال تجربة الانتفاضة الأولى التي استطاعت بشموليتها الجماهيرية وبانتشارها في الأراضي الفلسطينية كافة، وديمومتها لسنوات، أن تفرض معادلة جديدة في إطار الصراع الفلسطيني - "الاسرائيلي" وهو ما دفع المجتمع الدولي لأن يبحث عن حلول لوقف الانتفاضة، وتقديم مبادرات تفضي لحل الصراع، خاصة بعد أن اعتقدت "اسرائيل" وحلفائها أنّ إبعاد المقاومة الفلسطينية عن بيروت إثر حرب عام 1982، وبعد توزّع وتشتّت قواتها في أكثر من بلد عربي، وبعد الحصار الذي عاشته منظمة التحرير وفصائل العمل الوطني، أصبحت أمام فرصة تاريخية للإجهاز على منظمة التحرير وفصائل المقاومة، وبالتالي على الحقوق الوطنية الفلسطينية لكنّ الرد الشعبي الشامل في الأراضي الفلسطينية الذي جسّدته الانتفاضة فاجأ "إسرائيل" وحلفائها، خاصةً وأنه قد أعاد الاعتبار مرة أخرى للقضية الفلسطينية وطرحها بقوة باعتبارها قضية تحرر وطني، وبحاجة إلى حل يُلبّي حقوق الشعب الفلسطيني، وخشيةً من تطوّر الأوضاع بادرت الإدارة الأمريكية إلى البحث في كيفية احتواء الانتفاضة من خلال مسعى لعقد مؤتمر دولي مسيطر عليه يبحث في حل سياسي للصراع، وهو ما أدّى فيما بعد إلى عقد مؤتمر مدريد الذي شاركت فيه أطراف عربية، ثم إلى اتفاق اوسلو الذي وُقّع عام 1993، وتم ترجمته بعد ذلك في عام 1994.

إذا ما جرت مقارنة بين الانتفاضتين، فالانتفاضة الأولى كان هدفها حماية القضية الوطنية، والإمساك من جديد بالحقوق الوطنية الفلسطينية، والتأكيد على حق الشعب الفلسطيني بمقاومة الاحتلال وممارسة ذلك بانتفاضة شاملة ثم الحفاظ على منظمة التحرير أمام مخاطر التفتيت لها، لكن للأسف أقدمت القيادة الرسمية على استثمار الانتفاضة بشكل متسرّع، لم يؤدّي في النهاية إلى تحقيق الأهداف التي انطلقت من أجلها، وكان ذلك بالاستعجال في محاولة حصد النتائج عندما استجابت للمشاركة في مؤتمر مدريد، ثم في البحث بعد ذلك عن حلول ثنائية وبقنوات سريّة أدّت إلى توقيع اتفاق اوسلو الذي أدخل النضال الوطني الفلسطيني في مأزق عميق، ورهن المكوّنات التي انبثقت عنه (السلطة) بالاتفاقات الموقّعة، وبالتالي لسياسات دولة الاحتلال.

الانتفاضة الثانية، وكما أشرت في بداية حديثي، تعامل معها البعض أيضاً تعامل استخدامي ليس لمغادرة خيار المفاوضات ووقف التعامل مع اتفاقيات اوسلو التي تم انتهاء فترتها الانتقالية، وإنّما للاستمرار في ذات المسار بشروط أفضل، وهذه كانت إحدى مشكلات التعامل مع هذه الانتفاضة، فالحالة الجماهيرية، بانخراطها في الانتفاضة كانت ترد على الاتفاقيات الموقعة وعلى خيار المفاوضات الذي ثبت فشله في وقتٍ مبكّر.

إذن الانتفاضة هي تعبير عن حالة نضالية شعبية واستعداد تضحوي عالي لوقف مسار المفاوضات ورفض الاستمرار به وما ترتّب عليه من اتفاقيات، ورفضاً للضغوطات الأمريكية الإسرائيلية التي تكثّفت في مفاوضات كامب ديفيد والتي أرادوا فيها أن يتخلّى الفلسطينيون عن حقوقهم الأساسية بعودة اللاجئين إلى ديارهم، وعن القدس وغيرها من الحقوق، باختصار الانتفاضة الثانية أثبتت من جديد أن الشعب الفلسطيني ورغم كل الظروف المجافية لم يفقد البوصلة وأنه متمسّك بحقوقه كافة ومستعد لتقديم التضحيات لأجل الدفاع عنها وتحقيقها.

ما الذي دفع إلى تسليح الانتفاضة الثانية والوصول إلى مرحلة ما سُمّي بـ "عسكرة الانتفاضة"؟

الانتفاضة الثانية، جرى فيها التعامل من قبل "اسرائيل" بشكل مختلف عن الأولى، في الانتفاضة الأولى كان الاحتلال هو المسؤول مسؤولية مباشرة عن إدارة كل الأراضي الفلسطينية، ولذلك كانت حدود استخدام العنف مع المتظاهرين مقيّدة نوعاً ما، ولم يستخدم مقدراته الحربية الواسعة في مواجهة حركة الشارع الفلسطيني، في الانتفاضة الثانية الأمر مختلف فوجود السلطة بمؤسساتها وهيئاتها المختلفة أعطى قوات الاحتلال الصهيوني مبرراً للتعامل بشكلٍ مغاير مع الحالة الجماهيرية المنتفضة، حيث قام باستهداف البنى والمؤسسات الرسمية للسلطة، بحجة أنّ بعض عناصرها منخرطة في الانتفاضة، فضلاً عن عدم تحمّلها مسؤولية ضبط حركة الشارع، ثم قام باستخدام العنف المفرط مع الجمهور الفلسطيني من خلال القتل المتعمّد لإيقاع أكبر خسائر ممكنة في صفوفه، متجاوزاً في ذلك وسائل القمع بقنابل الغاز والأشكال الأخرى المتّبعة لتفريق التظاهرات، ومع استمرار وتطوّر الانتفاضة قام باستخدام الطيران في تدمير المباني بما فيها مقرات السلطة، وإلى اغتيال شخصيات قيادية أساسية منها الرفيق أبو علي مصطفى.

فإذن "اسرائيل" مع وجود السلطة، غيّرت من وتيرة وأساليب تعاملها العنفي مع الفلسطينيين إلى الدرجة التي لم تبقي فيه من أدواتها العسكرية إلاّ وقد استخدمتها في محاولة منها لقمع الانتفاضة، ومقابل هذا العنف "الإسرائيلي" تم رد فعل فلسطيني انعكس في بعض جوانبه على تغيير في أشكال الانتفاضة إلى أن وصلت في نهايتها إلى ما يمكن أن يسمى بعسكرتها، وبالتالي أصبح الفعل العسكري وبالتدريج يطغى على الحالة الجماهيرية.

الاغتيال الأول الذي نفّذه العدو الصهيوني في الانتفاضة الثانية كان باغتيال الشهيد أبو علي مصطفى الأمين العام للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين في حينه، ما رد فعل الجبهة والشارع الغزّي على هذه العملية؟

قبل الحديث عن رد الفعل، أود الإشارة أولاً إلى أنّ الجبهة كجزء من الحركة الوطنية الفلسطينية انخرطت في الصيغ الوطنية التي قادت الانتفاضة على صعيد المركز والمحافظات والمدن والبلدات والقرى، وكشاهد ومشارك في هذه التجربة بإمكاني الحديث عن تجربة قطاع غزة، وانطلاقاً من وعي الجبهة لأهمية توحيد جهد فصائل العمل الوطني، بغض النظر عن الخلافات السياسية والايدولوجية القائمة، بادرت مع آخرين بتشكيل لجنة المتابعة العليا للقوى الوطنية والإسلامية، كإطار يدير الفعل الانتفاضي للقطاع في الانتفاضة الثانية، ويحدد الموقف السياسي المشترك، والناظم للفعاليات ومناطقها، وحرص على إيجاد صيغة تنظّم العلاقة ما بين الفصائل الوطنية والإسلامية والسلطة، وحل أي تعارضات وفقاً لها.

الجبهة رأت في الانتفاضة فرصة لإعادة تصويب الحالة الفلسطينية، وإلى إعادة الاعتبار لطابع النضال الوطني التحرري للشعب الفلسطيني ضد الكيان الصهيوني، ومغادرة الخيار السياسي الذي أفضى لتوقيع اتفاقيات أوسلو والتحرر من قيوده، خاصة وأنّ المرحلة الانتقالية للاتفاق كانت مقررة بخمس سنوات، قد انقضت، وهي فرصة للفلسطينيين للخلاص من الكمين الذي نصب لهم في هذا الاتفاق، ومن كل ما ترتّب عليه.

على قاعدة ذلك انخرطت الجبهة بكل هيئاتها القيادية والكادرية والقاعدية ومنظماتها الجماهيرية في هذا الفعل الوطني الموحّد، وعملت أيضاً على أن يكون لجناحها العسكري كتائب الشهيد أبو علي مصطفى دور مباشر في المواجهات الجارية مع العدو الصهيوني سواء في نقاط التماس، أو من خلال العديد من عمليات الاشتباك مع قوات الاحتلال.

ما يمكن استخلاصه كدرس مهم من الانتفاضة الثانية، هو ان مقاومة العدو هي أداة التوحيد الفعّالة للشعب الفلسطيني وحركته الوطنية، وهو ما تجلّى بوضوح في انخراط الجميع بالانتفاضة رغم الانقسام السياسي الذي كان سائداً، ثم في استعداد الجماهير للتضحية وتحمّل الخسائر إيماناً منها بأن هذا هو طريق الخلاص من الاحتلال ومن المعاناة المترتبة عليه، وأعتقد أنّ مشاهد تشييع الجنازات وما كان يتردد فيها من هتافات، وذهاب الشباب والفتية إلى مناطق التماس للاشتباك مع جنود الاحتلال في المناطق كافة بالضفة والقطاع والانخراط الجماهيري الواسع في كل الفعاليات، عكس بشكلٍ جلي الاستعداد التضحوي العالي لشعبنا.

في ضوء هذه اللوحة كان نبأ استشهاد الرفيق أبو علي مصطفى محفّزاً ليس للجبهة فقط، وإنّما لجماهير شعبنا بالدعوة للثأر من قوات الاحتلال، وأعتقد ان المسيرة الجماهيرية الواسعة التي انطلقت لتشييع الرفيق أبو علي في رام الله، والتشييع الرمزي الذي دعت له الجبهة ولجنة المتابعة في قطاع غزة، عكست مدى احتضان الجماهير لفكر وقيم الرفيق أبو علي، ومدى تقديرها للدور الذي لعبه في انطلاق الانتفاضة، وفي النضال والكفاح الوطني بشكلٍ عام، ورأت في مقولته الشهيرة عندما عاد للوطن (عدنا لنقاوم على الثوابت لا نساوم)، ما يعكس بالضبط الدوافع التي دعتها للانخراط بفاعلية واسعة في الانتفاضة، وقد كان مُلفتاً للنظر أن الرفيق أبو علي الذي لم يعش في قطاع غزة حظي بهذا الالتفاف الجماهيري الواسع يوم التشييع الرمزي له مع هتافات لم تتوقف بالقصاص من العدو الصهيوني على جريمة الاغتيال، ثم المشاركة الجماهيرية والسياسية اللافتة يوم التأبين الذي أقيم له في اليوم الأول بالمنتدى بطلب من الرئيس الراحل ياسر عرفات، والأمواج الجماهيرية التي تدفقت على المجلس التشريعي طيلة أيّام تقبّل التعازي، كل ذلك برأيي عكس بُعدين، بعد مثّله الرفيق أبو علي في وجدان الجماهير وفي التعبير عن مواقفها، وبعدٌ آخر عكس استعداد الحالة الجماهيرية لاحتضان المقاومة وما يترتب على ذلك من تضحية لأجل الخلاص من الاحتلال.

في ظل هذه الحالة كان الرد السريع على اغتيال الشهيد أبو علي مصطفى في 17 أكتوبر، عندما تم تصفية المجرم الفاشي رحبعام زئيفي وسط مدينة القدس المحتلة، وهي عملية نوعيّة هزّت اركان المؤسسة العسكرية والأمنية السياسية الإسرائيلية.

وبالعودة إلى الانتفاضة وما أفرزته، فإنها قد أعادت الاعتبار من جديد لمكانة القضية الفلسطينية لدى حركة التحرر العربية والشعوب العربية باعتبارها القضية المركزية للأمة العربية، وكان في هذا رد بليغ وهام على محاولات الاستفراد بالفلسطينيين ومحاولة عزل قضيتهم عن الصراع العربي - "الإسرائيلي"، من قبل "إسرائيل" وحلفائها ولذلك تحرّك الشارع العربي بقوة لدعم الانتفاضة الثانية على مختلف المستويات، وهذا يقودنا إلى استخلاص هام، وهو أنّ على القيادة الفلسطينية والفلسطينيين جميعاً أن يعيدوا الاعتبار للبعد القومي للقضية الفلسطينية من خلال الإمساك بالحقوق الوطنية، وإعادة التركيز على التناقض الرئيس مع الاحتلال باعتباره تناقضاً أيضاً بين الامة  العربية والكيان الصهيوني، ثمّ في إعادة الاعتبار للقضية الفلسطينية باعتبارها قضية تحرر وطني وقضية قومية للأمة العربية.

إن كان بالإمكان الحديث عن تجربة شخصية خلال الانتفاضة الثانية؟

من الصعب الاستحضار الآن بصراحة، كنت عضو في لجنة المتابعة ومنخرط كليّاً في المشاركة باجتماعاتها وفعالياتها، وأتابع تنفيذ ما ينجم عنها من خلال تنظيم الجبهة الشعبية، ما يحضرني الآن وما تحفظه الذاكرة هو اندفاع الأطفال والشبان الفلسطينيون إلى مناطق الحدود بطريقة تثير الإعجاب، إن هذا الجيل الذي لم يعش بشكلٍ كافٍ تجربة الاحتلال وما ترتّب عليها من معاناة، أدرك بوعي فطري ووعي مبكّر أن له دور في مقاومة هذا الاحتلال، وهذه من القضايا التي من المهم دائماً استحضارها دوماً كونها تعكس حيوية الشعب الفلسطيني الذي ورغم مضي كل هذه السنوات على نكبته واحتلال أراضيه يجد من بين صفوفه فتياناً وشباباً يحملون الراية ويواصلون النضال حتى تحقيق الأهداف الوطنية.