الرئيس ميشال عون: الخيارات الواضحة والصبر الاستراتيجي!

حجم الخط

في نظام وبنى سياسية تقوم على الطائفية السياسية والعائلية كالنظام اللبناني يصبح دور الفرد حاسما، هذا الدور واتجاهته ومضمونه وقوته يرتبط وإلى حد بعيد بسمات الشخص وتكوينه النفسي ومرتكزاته السياسية والقيمية والأخلاقية.
الساحة اللبنانية كما معظم الساحات العربية زاخرة بالنفاق السياسي والسمسرة واللعب على التناقضات والتوازنات، خاصة وأن القوى السياسية اللبنانية، وبعيدا عن التغني بالديمقراطية والنموذج اللبناني واستقلال القرار اللبناني، فإنها بمعظمها ترتبط بمرجعيات خارج لبنان، سواء عربية أو دولية (السعودية، إيران، سورية، فرنسا، أمريكا...)، الأمر الذي جعل حركة النظام السياسي في لبنان مرتبطة بمسننات تلك القوى الفاعلة.
هذه الحقيقة تضع لبنان دائما في مهب التناقضات الإقليمية وما يترتب على تلك التناقضات من "فيتو" بما يجعل انتخاب رئيس للجمهورية طوال سنتين ونصف أمرا غير ممكن بدون توافقات إقليمية على سبيل المثال.
ومع ذلك، ورغم كل هذه التدخلات فإن المعادلات في النهاية خاضعة لموازين القوى الإقليمية والداخلية.
هنا يمكن فهم الظروف والشروط التي أوصلت العماد عون إلى قصر بعبدا الرئاسي في لبنان بعد انتظار سنوات طوال، عاش فيها لبنان حالة من الانحباس والاستعصاء جعلت من انتخاب الرئيس أمرا شبه مستحيل، بل وأغرقت بيروت في النفايات دون أن يحرك ذلك ساكنا عند النخب السياسية اللبنانية المشغولة بانتظار بالمعادلات الاقليمية وأيضا بالمناكفات الطائفية والعائلية.
الآن يمكن القول أن تلك المعادلات قد نضجت بما فيه الكفاية لكي تكون محصلتها انتخاب العماد عون رئيسا للبنان.
تلك المعادلات تمثلت أولا بفشل الحرب على سورية بعد أكثر من خمس سنوات الأمر الذي أسقط نهائيا حلم سعد الحريري بالعودة إلى بيروت من مطار دمشق كما صرح ذات يوم.
وأيضا تآكلت السعودية ماليا وسياسيا وعسكريا وأخلاقيا على المستوى الإقليمي والعالمي بسبب سياستها الرعناء وغير الواقعية، وبسبب رهانتها القاصرة وخوضها حربا شرسة ضد الشعب اليمني نتيجتها بعد عامين غرق السعودية في مستنقع هذه الحرب، وفقدان العالم بما في ذلك أقرب حلفائها لصبرهم تجاه جرائمها المروعة، هذا أثر مباشرة على أداتها الأولى في لبنان تيار المستقبل.
في هذا السياق يأتي أيضا الفشل والعجز الأمريكي – الغربي في إعادة ترتيب الإقليم وفق محددات مشروع الشرق الأوسط الجديد، الذي جوهره إعادة تقسيم الدول العربية على أساس طائفي إثني وليس على أساس جغرافي وفق طبعة اتفاقيات سايكس بيكو عام 1916. 
الأهم من كل ذلك هو ثبات محور المقاومة وبدعم مباشر من روسيا الاتحادية وتحقيق الانتصارات المتراكمة في سورية والعراق واليمن بالإضافة إلى وضع حدا للغطرسة الإسرائيلية التي لم تعد مطلقة اليدين في الإقليم بحكم معادلات الردع الإستراتيجي التي تشكلت منذ انتصار تموز عام 2006 ولا تزال تتوالى حتى الآن.
العماد ميشال عون، رجل يمتاز بسمات وصفات ورؤية جعلته يتخذ خيارات كبرى في اللحظات الفاصلة، فبعد عودته من منفاه القسري في فرنسا أثبت أنه رجل دولة وسياسة من طراز خاص، فلم يبق أسيرا لعقدة المواجهة العسكرية مع سورية، فهو يدرك معادلات الواقع والجغرافيا والتاريخ التي لا يجوز أن تضع لبنان في مواجهة سورية، كما أنه ومنذ البداية اتخذ خيارا سياسيا واضحا بالوقوف مع خيار المقاومة وفي لحظات كانت معظم دول العالم والقوى في المنطقة تقف إلى جانب حرب إسرائيل العدوانية عليها في عام 2006، وفي هذا الصدد أذكر قولا للعماد عون عند سؤاله حول دعمه للمقاومة قال: نحن اخترنا ولم نراهن، ومن يختار فهو يعرف نتائج خياره مسبقا، نحن لم نراهن لقد اخترنا وكنا مستعدين لتحمل نتائج خياراتنا.
إذن نحن أمام رجل له موقف ورؤية، شجاع وصلب... هذا التقاطع ما بين الخيارات السياسية الصحيحة إستراتيجيا وطنيا وقوميا، والالتزام بالتحالف مع قوى جدية فاعلة وتقاوم بصبر وذكاء وعناد، إلى جانب سمات أخلاقية تتسم بالصراحة والجرأة والصدق، والتحلي بقدرة على الصبر الاستراتيجي وتحمل الضغوط دون تسرع ودون صبيانية ومغامرات هو ما أوصل عون إلى قصر بعبدا.
هذا النموذج من القادة والساسة ليس له علاقة بنموذج سعد الحريري الثأري الذي يفتقد للرصانة ويمارس السياسة بخضوع وتبعية كاملة للسعودية، كما ليس له علاقة بسماجة ووقاحة سمير جعجع، وأيضا ليس له علاقة بفهلوة وليد جنبلاط وحركاته البهلوانية. 
في مقالة سابقة بعنوان الأخلاق والسياسة قلت ما معناه: الأخلاق بذاتها كمفاهيم ليست هي قوة التغيير بل إن الالتزام بالفعل السياسي والاجتماعي لتغيير الواقع هو القيمة الأخلاقية الكبرى... التي ستنتج في سياقاتها منظومة أخلاقية عملية منسجمة مع الواقع.
فكل الأحاديث عن الأخلاق والفضيلة والواجب بدون تحديد وبدون مضمون سياسي واجتماعي وبدون الاستعداد للفعل من أجل تغيير العلاقات التي تولد كل أشكال الهبوط الأخلاقي من نوع: الكذب والنفاق والنهب والسمسرة واستغلال الآخرين... وتحويل الإنسان والجسد والجمال وحتى الأخلاق إلى سلع بقيمة تبادلية.. فإن كل اللغو عن الأخلاق هو مجرد وسيلة لتكريس الواقع... لا أكثر... 
ما أريد قوله أن المواقف العلمية والرؤية الثاقبة والذهاب نحو الخيارات الصحيحة هو الذي يعطي للفرد وأخلاقه الفرصة لكي يتقدم النموذج وينتصر... 
هذا ما كانه ويمثله الرئيس ميشال عون خيارات ومواقف واضحة وصحيحية، إحساس عميق بمسؤولية السياسي مدعوم بنمظومة أخلاقية صلبة وصبر إستراتيجي ...
مبروك للبنان ومبروك أيضا لنا.