«حادثة التفجير» وإرث الانقسام

حجم الخط

أعادت محاولة تفجير موكب رئيس حكومة السلطة الفلسطينية، رامي الحمد الله، حدة الانقسام، وموانع إنهائه، إلى مربع حدوثه قبل 11 عاماً. وهذا هو، (في رأيي)، هدف حادثة التفجير المشبوهة، وليس، فقط، إيقاف عجلة جهود المصالحة الجارية المتوقفة أصلاً. كيف لا؟ وقد نجح مرتكبو الجريمة في إعادة التراشق الإعلامي، ووصلات الردح، وانعدام الثقة، والتوترات الحادة، وتبادل اتهامات التخوين، والردود القصوية بين قيادتي «فتح» و«حماس»، كأن الانقسام حدث بالأمس. بذلك دخلت الحركتان، ومعهما الحركة الوطنية برمتها، فصائل ومؤسسات وطنية عامة، في دهليز مظلم، وتيه مميت، وانشغال داخلي طويل متعدد الأبعاد، بينما تطبيقات مؤامرة «صفقة القرن» لتصفية القضية الوطنية تسير على قدم وساق، ما يشبه حال حكماء بيزنطة، حيث واصلوا جدلهم حول «كم من الشياطين تستطيع الجلوس على رأس الدبوس»؟ بينما كان عدوهم يدكّ حصون مدينتهم دكاً.

كل ذلك، رغم أن هذا التفجير هو حدثٌ جلل بذاته، وشديد المخاطر في تداعياته ومعانيه ونتائجه، ما يوجب، بداهة، عدم استبعاد أي فرضية محتملة لمعرفة منفذيه، والجهة التي تقف وراءهم؛ التي قد تكون فلسطينية موتورة، (كجماعات السلفية «الجهادية» التي نفذت عمليات اغتيال في غزة)، وقد تكون بيد فلسطينية بإيعاز خارجي مباشر، (وسوابق الاغتيال على يد عملاء الاحتلال لا تُعد)، أو غير مباشر ومعقد، (كاغتيال الاحتلال للقائد الشهيد أبو إياد مثلاً)، وقد تكون..الخ، علماً بأن «إسرائيل» هي اللاعب الأخطر في مجريات الانقسام منذ وقوعه؛ والمستفيد الأكبر من نتائجه وتداعياته، والمعني الأول باستمراره، وبتحويله إلى انفصال دائم بين الضفة وقطاع غزة، حتى لو لم تكن المدبِّر لهذا التفجير.

لكن يبدو أن عِقداً ويزيد من الانقسام قد خلق ديناميكية فتاكة طالت مجالات الفكر والسياسة والأمن والقيم الوطنية الفلسطينية؛ وانتج ورسخ منافع حزبية وفئوية وشخصية ضيقة يصعب على أصحابها التخلي عنها؛ وأنجب خرائب كثيرة في عقل التنظيم السياسي الفلسطيني؛ وأفضى إلى ارتباطات بين طرفيْه،( الانقسام)، وأطراف خارجية يصعب عليهما فكها بعدما تحولت إلى خط سير سياسي ومالي. كل هذه النتائج لم يتصورها أحد عندما وقع الانقسام، ولا حتى القادة الذين لم يحسبوا العواقب، واستسهلوا، وتجرأوا على اتخاذ قرار إحداث الانقسام، عبر ارتكاب خطيئة اللجوء إلى السلاح لحسم مسائل الخلافات والاختلافات الداخلية، السياسية والفكرية والأمنية التنظيمية.

لكن كل ما تقدم، (وهنا المصيبة والطامة)، لم يدفع لا قيادة «فتح»، ولا قيادة «حماس»، إلى إجراء مراجعة تستخلص الدروس والعبر، وتُصوِّب المسار، فطرائق عمل سنوات الانقسام تحولت، كما يبدو، إلى شكل من أشكال قوة العادة، يصعب تغييرها، أو التفكير في نتائجها، حتى في الظروف الصعبة، كحادثة التفجير التي يقر الجميع بأنها تستهدف الوحدة الوطنية، كشرط لا غنى عنه لانخراط الشعب الفلسطيني في مواجهة سياسية وشعبية شاملة، ولاستقطاب الدعم الخارجي المنتظم متعدد الأشكال والجنسيات.

عليه، يصعب على «فتح»، مثلما يصعب على «حماس» إقناع الشعب الفلسطيني، ونخبه القيادية الجادة الحريصة، ومناصريه، عرباً و«عجماً»، بصوابية معالجة كلتيهما لحادثة التفجير المشبوهة. فقيادة «حماس» أخطأت حين تصرفت كسلطة لها حق التفرد بالتحقيق؛ ولم تُقدَّر، كما ينبغي، المخاطر الوطنية لذلك؛ فيما كان المطلوب أن تطلب، فور وقوع التفجير، تشكيل لجنة تحقيق مهنية وسياسية وطنية، بمشاركة مصرية، (مثلاً)، بدل الاكتفاء بتحقيق أجهزتها الأمنية، فيما تعرف قبل غيرها، وأكثر من غيرها، أن نتائج تحقيقها الخاص تبقى عرضة لتشكيك الآخرين بعامة، ولتشكيك قيادة «فتح» والسلطة بخاصة. أما إعلان أجهزتها الأمنية أن «تقدماً كبيراً حصل في التحقيق»، بعد نشرها لاسم وصورة شخص قالت إنه المشتبه الأول في ارتكاب الجريمة، فلن يغير من الأمور شيئاً، فقد «سبق السيف العذل». ف«فتح» التي تروت، في البداية، واكتفت بتحميل «حماس»، كسلطة فعلية في قطاع غزة، المسؤولية السياسية للجريمة، انقلب موقفها رأساً على عقب، حيث أكد الرئيس أبو مازن أن «حماس» نفذت التفجير، (من دون تقديم أدلة)، و«إن أمريكا و»إسرائيل» وحركة حماس تعمل على انفصال قطاع غزة»؛ وقال «لم يعد هنالك حاجة لجهود المصالحة»، لأن «للانقسام طرفاً واحداً هو حماس»؛ وأعلن أنه قرر اتخاذ «إجراءات وطنية وقانونية ومالية كاملة»، كأن كل قطاع غزة «حماس». أما حكومة السلطة الفلسطينية، فدعت «حماس» إلى «تسليم السلطة في قطاع غزة لحكومة التوافق الوطني دفعة واحدة، وبصورة كاملة».