عنف أكبر سوف يجيء

حجم الخط

لم تكن المجزرة، التي ارتكبت عند الحاجز الحدودي مع قطاع غزة في ذكرى «يوم الأرض»، حدثاً عابراً يذهب بجراحه إلى الذاكرة المتخمة بمثل هذه المجازر دون حساب من قانون دولي، أو ردع من ضمير إنساني، أو تحرك من عالم عربي.

المجزرة «الإسرائيلية» بتوقيتها ورسالتها وتداعياتها تؤسس لعنف أكبر سوف يجيء وتشمل موجاته الارتدادية الإقليم كله.

بالتوقيت فإنها تستبق نقل السفارة الأمريكية إلى القدس المحتلة يوم 15مايو/أيار المقبل، التي قد يشارك في احتفالاتها الرئيس الأمريكي «دونالد ترامب».

هذه رسالة المجزرة بالطريقة التي جرت بها وأحجام الضحايا الذين سقطوا فيها. رسالة ترويع بالقتل الجماعي حتى تنكسر روح المقاومة ويسود اليأس من أي حق، كما لو كانت استنساخاً في ظروف جديدة لمجزرة «دير ياسين».

لم يكن خفياً على قوات الاحتلال أن التظاهرات، التي تجمعت عند الحاجز الحدودي تحت عنوان «مسيرة العودة»، تستلهم «يوم الأرض» استعداداً لمواجهات لا مفر منها.

في ذلك اليوم البعيد (30) مارس/آذار (1976) أعلن الفلسطينيون إضراباً عاماً، نظموا مسيرات حاشدة في المدن العربية خلف الجدار، ودخلوا في مواجهات مع قوات الاحتلال حين صودرت أراضيهم. إنه الصراع على الأرض، أو ما تبقى منها.

القدس خارج كل تفاوض، كأن تهويدها مسألة مفروغ منها. المسجد الأقصى تحت الخطر الداهم والاقتحامات المتكررة لباحاته تنذر بمواجهات وصدامات وحرائق تمتد إلى كل مكان في العالمين العربي والإسلامي.

كما أن الأوضاع الميدانية في الضفة الغربية تدفع للاعتقاد بأن ضم الكتل الاستيطانية إلى الدولة العبرية مسألة وقت، غير أنها صراع على الأرض والمواجهات لن يكون لها سقف.

لم تكن تهديدات وزير الحرب «الإسرائيلي» أفيجدور ليبرمان عن استخدام الحد الأقصى من القوة باسم حماية السيادة «الإسرائيلية» والأمن «الإسرائيلي»، طلقات في الهواء بقدر ما هي سياسة معتمدة سوف تأخذ مداها الدموي.

إننا لا نتعلم هكذا نبدو بوضوح من تجاربنا المريرة، ولا من الدروس التي دفعنا ثمنها دماً غزيراً في مسار القضية الفلسطينية.

قبل النكبة (1948) لم يكن هناك تنبه في مصر للخطر الماثل على الحدود.

جرت لقاءات بين مفكرين وسياسيين كبار، بينهم الدكتور «محمد حسين هيكل» (باشا)، مع مؤسس الدولة العبرية «ديفيد بن جوريون» دون أن يستوقفهم المشروع الصهيوني وأخطاره على الفلسطينيين والمصريين والعرب جميعهم.

عميد الأدب العربي الدكتور «طه حسين» نفسه ذهب إلى الجامعة العبرية وألقى محاضرات فيها، فيما كانت العصابات اليهودية تتدفق على فلسطين.

بعد سبعين سنة من النكبة والصراعات الدامية وأحاديث السلام المراوغ بين الفلسطينيين و«الإسرائيليين» هناك من هو مستعد أن يخدع نفسه، ويخدع الآخرين، بفرصة سلام ممكنة. الأسوأ أن هناك من هو مستعد لتبني الرواية «الإسرائيلية».

يمكن رصد عشرات الدروس على مسار الصراع يتم إهدارها الآن على نطاق غير مسبوق، كأن القضية الفلسطينية بلا ذاكرة كأن القصة كلها لم تحدث والتاريخ كان وهماً.

ضاع درس أن الصراع في جوهره بين مشروعين: «القومي العربي» و«الإسرائيلي» انكسر الأول وتوحش الثاني. ضاع معنى أن فلسطين نفسها قضية العرب المركزية حتى أصبحت عبئاً على أغلب النظم العربية تطلب التخلص من صداعها.

أسوأ ما يحدث تطبيع العلاقات الاقتصادية والاستخباراتية والعسكرية مع «إسرائيل» ودمجها في الإقليم مجاناً دون التزام بمنطوق مبادرة السلام العربية، التي تقضي بتطبيع كامل مقابل انسحاب شامل من الأراضي العربية المحتلة منذ عام (1967)

منذ توقيع اتفاقيتي «كامب ديفيد» كان التطبيع السياحي والثقافي من بين الاشتراطات الأمريكية حتى يكون دمج «إسرائيل» في المنطقة مقبولاً ومعتاداً وطبيعياً، لكنه فشل بقوة الرأي العام المصري.

وكان التطبيع التجاري مطلوباً بذاته كمدخل لبناء شرق أوسط جديد على أنقاض النظام الإقليمي العربي.

وكان التطبيع العسكري والاستخباراتي، ما هو معلن وغير معلن، الهدف الأعلى للمشروع «الإسرائيلي»، إذ تتقوض به أوضاع صراع وتبنى أوضاع سلام دون أن يكون هناك سلام يقر للفلسطينيين أية حقوق مشروعة.

الأخطر في مثل هذا النوع من التطبيع أنه يحتفظ ل«إسرائيل» بالتفوق النوعي العسكري على كل الدول العربية مجتمعة.

عند الاختيار بين دور طبيعي وتاريخي تلعبه مصر، وقد لعبته في مراحل عديدة من تاريخها، وبين دور لا طبيعي ولا تاريخي تلعبه «إسرائيل» إن دمجت في المنطقة على النحو الذي يخطط له، فإن الاختيار لا يجب أن يكون فيه أدنى التباس وتردد.

إن تقبل «سلام القوة»، والتغاضي عما ترتكبه سلطات الاحتلال من مجازر بحق الفلسطينيين، كارثة تاريخية محققة تنال من احترام العرب لأنفسهم.

إذا ما أهدرت قضاياك العادلة فلا أحد في العالم مستعد أن يحترمك.

وإذا ما اتسعت مساحات الرهان على «إسرائيل»، بكل ما تمثله من تمييز عنصري ضد الفلسطينيين وهمجية قوة، فإن ذلك ينذر بتدهور ثقافي وأخلاقي وشيوع لروح الهزيمة في العالم العربي.

بصورة لا يمكن إنكارها فإن الفلسطينيين يدافعون بالأصالة عن قضيتهم وأرضهم، ويدافعون بالنيابة عن العرب الآخرين، الذين لم يتعلموا شيئاً من حقائق الصراع، ولا هم مستعدون أن ينظروا في التداعيات ف«رعب أكبر سوف يجيء» كما قال ذات مرة الشاعر الكبير «صلاح عبدالصبور».