العرب والتاريخ

حجم الخط

في الأيام الأخيرة، لاحظت اكتظاظ مواقع التواصل الاجتماعي، بالهجوم على العرب، ووصفهم بالعربان والبدو وما هو أكثر من ذلك. وكنت أحيل ذلك إلى ضعف في المناهج التربوية، وإلى غياب الوعي، لدى المعنيين في البلدان العربية، بالمخاطر التي تحدق بالهوية العربية، والوطنية. وإلا كيف نفسر وجود حواضن شعبية للتطرف، في الكثير من البلدان العربية.

لكن ذلك تسرب للأسف للنخبة المثقفة، التي يتوقع منها أن تحتل دوراً ريادياً في قيادة المشاريع الثقافية والتنويرية في مجتمعاتها. لقد دفعني ذلك لأن أدلي بدلوي في دعوة المثقفين، بأن يسهموا في ترسيخ الوعي القومي، والتمسك بالهوية العربية، كحاضن رئيسي لأبناء هذه الأمة.

وعبّرت في هذا السياق، عن ألمي مما ينشر من قبل الشباب، العرب، في مواقع التواصل الاجتماعي، ومن ضمنهم مصريون، يتنكرون للعروبة، ويتحدثون عن انتماءات ما قبل تاريخية، كالفرعونية والفينيقية، وغيرهما.

ومن حسن الطالع أن معظم الردود التي تلقيتها على صفحتي، جاءت متماهية مع هذا الطرح، لكن بعضها جاء هجومياً. وبشكل خاص الرد الذي كتبته زميلة من مصر، عرفت بمواقفها الجريئة، وكان ردها صادماً بالنسبة لي فقد أشارت إلى أن الفرعونية ليست هوية ما قبل تاريخية، بل هي التاريخ الحقيقي للأرض التي سحقها غزو قطاع الطرق، حين أغاروا بهمجية قبل أربعة عشر قرناً، على المدائن المصرية، واستقروا ليمحوا برمال صحاريهم كل ما هو حضاري وإنساني..

وتواصل الزميلة هجومها القوي، بالقول بأنها شخصياً ترفض الانسحاق العروبوي الإسلاموي في مصر، وأنها تبحث عن هوية تاريخية، ليست كما جاء في توصيفي بأنها غير تاريخية، كي تنجو ببلادها وأبنائها من هذه الإغارة التي طالت.

وأجد هذا السجال، فرصة سانحة لتناول هذا الموضوع الذي يمس حياتنا ومستقبلها بهدوء وروية قدر ما تسمح به مقالة قصيرة.

إن اتهام الحضارة العربية، بالغزو والهمجية، هو قراءة غير تاريخية، ذلك أن تشكل الأمم، لا يأتي من فراغ، وليس شيئاً ساكناً، كونه خاضعاً لقانونَي التطور والحركة، والأمم لا تتشكل بين لحظة وضحاها. والحضارات تتأسس كنتاج حراك إنساني صاخب ومكتظ وفوار، وليس شرط تحققها، أن تكون عادلة، ومتسقة مع رغباتنا.

كل الأمم التي سادت قبلنا، هي نتاج استمرار لدورات تاريخية، تختفي فيها أمم وتتأسس أمم جديدة، يكون بعضها نتاج حروب هيمنة، بما في ذلك تشكل الأسر الفرعونية ذاتها.

لقد قام العرب، أثناء توهج حضارتهم بفتوحات وصلت إلى السند والهند شرقاً، وإسبانيا غرباً، ولم يفرضوا لغتهم على الأمم التي باتت تابعة لهم. كما أنهم لم يفرضوا دينهم على تلك الأمم. فهناك شعوب قبلت بالإسلام ولم تقبل باللغة، وشعوب أخرى بات انتماؤها عربياً ولم تقبل الدعوة للدين الجديد. وهو أمر جدير بالتوقف، حيث لا إكراه في الدين ولا في الانتماء للغة.

قبل الجزء الممتد من الخليج العربي شرقاً، إلى المحيط الأطلسي غرباً، بالدين الإسلامي واللغة العربية، لكن ذلك لم يمنع من بقاء أقليات قومية، كالأكراد والأمازيغ حتى يومنا هذا. كما أنه لم يتم إجبار المسيحيين واليهود الذين أصروا على التمسك بمعتقداتهم على تغييرها. وإلا كيف نفسر وجود مسيحيين، في العراق ولبنان وسوريا ومصر والأردن وفلسطين والسودان، وأيضاً وجود يهود، حتى ما قبل تأسيس «إسرائيل» في اليمن والبحرين والعراق وسوريا وفلسطين ومصر وليبيا وتونس والمغرب، إن لم يكن تسامح العرب والمسلمين، أثناء فتوحاتهم للبلدان، التي باتت بحكم حقائق الجغرافيا والتاريخ جزءاً من الوطن العربي الكبير.

العرب الذين يطلق عليهم من قبل الزميلة، وغيرها ممن يتطلعون إلى تغيير جلدهم، أسسوا لحضارة عظيمة، أبهرت العالم بأسره، وجعلوا مثقفين من كافة أرجاء الوطن العربي، قديماً وحديثاً، يتغنون بأشعار وحكم المتنبي والمعري. وكان إسهامهم في تطور العلوم، مضرب مثل في العالم بأسره.

برز من بيننا ابن النفيس والكندي والفارابي وابن سيناء والرازي والخوارزمي وابن رشد وابن خلدون، وضعوا قواعد الجبر، ودرسوا الفيزياء والكيمياء، وأسسوا علم الفلك، ووضعوا البدايات للعلوم الاجتماعية، ومارسوا الطب بمهارة، ودخلوا في مجالاته المعقدة، بما لا يتسع المجال هنا للتفصيل. وتدرس نظرياتهم العلمية، حتى يومنا هذا في الجامعات العلمية، في أوروبا وأمريكا ومختلف جامعات العالم. نقلوا فلسفة اليونان، وأضافوا فيها، ووضعوا بصمتهم عليها.

والحديث يطول في هذا السياق، لكن آثار ما بعد الفتح العربي، من منجزات علمية وحضارية لا تزال ماثلة أمامنا حتى يومنا هذا، وبعضها لا يزال مكبوتاً، أو تحت الرمال، حسب تعبير الزميلة، ومنها ما كشف عنه، أثناء الحفريات في مدينة الفسطاط التي بناها الصحابي الجليل عمرو بن العاص، من أدوات جراحية متطورة، قياساً لذلك العصر.

وكان لمصر التاريخ، باستمرار دور لا يستهان به في هذا التواصل الحضاري الرائع، عبر عنه الراحل الكبير، جمال حمدان، حتى غدت أرض الكنانة قلب العروبة النابض، وستبقى كذلك، بمشيئة العلي القدير.