الصراع العربي الصهيوني لا ينتهي بالاعتراف والتطبيع

حجم الخط

لن ينتهي الصراع العربي الصهيوني مهما تخلت الأنظمة العربية جميعها عن القضية الفلسطينية واعترفت بالكيان الصهيوني، ومهما تعالت أصوات الإعلاميين العرب المتصهينين المُستلبين حضاريًا، الذين فقدوا انتمائهم القومي والديني، حيث التهافت العربي الرسمي المذل الجاري الآن بصورة متسارعة غير مسبوقة في التاريخ السياسي العربي على فك العلاقة السياسية المصيرية مع هذه القضية القومية التي نشبت بسببها حروب دامية منذ عام 48، وسقط فيها الشهداء العرب من الجيوش ومن المتطوعين، الذين هبوا للدفاع عن عروبة فلسطين بدافع الشعور القومي والديني، وكذلك من الأفراد المدنيين في مذابح دير ياسين وغيرها، في فلسطين وبحر البقر في مصر وملجأ العامرية في جنوب لبنان. لذلك كله فإن الأنظمة السياسية العربية وحدها لا تملك وضع حدًا لنهاية هذا الصراع الدموي مع الكيان الصهيوني، لأن مصيرها في الحكم إلى زوال مهما طال عهود الاستبداد والتسلط، وإن هذا النفر الرخيص من الإعلاميين العرب المتصهينين المُستلبين حضاريًا لا يعبر عن موقف الشعوب العربية الرافضة لوجود الكيان الصهيوني، الذي قام على أساس الاغتصاب والتطهير العرقي، حيث من يقرر في النهاية السلم والأمن والاستقرار والتعايش هي الشعوب، وليس الأنظمة الزائلة، والأمثلة كثيرة على ذلك؛ أقربها موقف إيران وهي دولة إسلامية وغير عربية والتي كانت في عهد نظام الإمبراطور الشاه الحليف الأوثق للكيان الصهيوني، ولكن بسقوطه وقيام الجمهورية بفعل الثورة التي أطاحت بالنظام الفارسي الاستبدادي الوراثي تغير الموقف السياسي جذريًا، وأصبحت إيران الآن العدو الأول له حتى أن عداء الجمهورية الإسلامية الإيرانية الشيعية للكيان الصهيوني، يفوق الآن عداء كثير من الأنظمة العربية له، خاصة أنظمة الخليج العربي السنية التي تقوم بتطبيع تدريجي وعلى أعلى المستويات، بل وتوشك على الاعتراف بالدولة العبرية رسميًا، حتى قبل التوصل إلى تسوية سياسية للصراع الفلسطيني الإسرائيلي وتمهد بذلك بإطلاق حملة شعواء على شعبنا الفلسطيني من خلال نخب من الإعلاميين والصحفيين ورجال الدين المأجورين الحاقدين.

الصراع العربي الصهيوني لن ينتهي بين الأمة العربية والكيان الصهيوني بالاعتراف والتطبيع، لأن السياسة العدوانية التي ينتهجها الكيان الصهيوني في المنطقة بحكم وظيفته الحقيقية العدوانية التي وجد من أجلها، وهي حماية المصالح الإمبريالية الضرورية لضمان استمرار حيوية وانتعاش الحضارة الغربية البرجوازية الاستهلاكية، تجعله دائمًا في موقع التآمر المتواصل على دول وشعوب المنطقة لإعاقة وحدتها القومية، وعرقلة تحررها من علاقة التبعية للنظام الرأسمالي العالمي والصهيونية التي تشكل مرجعية هذا الكيان، وهي حركة عنصرية رجعية عميلة للإمبريالية ومرتبطة بها، وهي ملتزمة بتحقيق أهدافها الاستراتيجية، وفي المقدمة منها كسب انتصارات جديدة على طريق تقدم المشروع الصهيوني، وتحقيق المزيد من تطلعاته التي تحقق بعضها بالفعل بتوسع الكيان بعد هزيمة يونيو حزيران 67، وبالاعتراف والتطبيع به من قبل بعض الدول العربية. وعند التشخيص الدقيق في طبيعة هذا الصراع الذي لم يتوقف يتضح بأنه ليس صراعًا سياسيًا على الحدود كما يتم طرحه في مشاريع التسوية السياسية، أو ما يسمى بالسلام الاقتصادي الإقليمي الذي تسوقه الإدارة الأمريكية الآن تحت اسم صفقة القرن، ولكنه صراع وجودي حضاري يحكمه تناقض رئيسي بين هويتين هوية قومية عربية أصيلة متجذرة في الأرض، وهوية مشوهة مختلطة فاقدة للتجانس الاجتماعي الحضاري، الأمر الذي يجعله صراعًا دائما متجددًا؛ لأن كل انتصار يحققه الكيان الصهيوني على الأقطار العربية المجاورة يساهم في خلق وعي قومي وروح تصدي للهزائم العربية واصطفاف شعبي حول شعارات المقاومة.

هكذا فإن الصراع العربي الصهيوني الذي نشأ بسبب قيام الكيان الصهيوني في القلب من الوطن العربي، ليضمن استمرار حالة التبعية والتجزئة، هو صراع تاريخي مفتوح لا تغلقه معاهدات الصلح والاعتراف التي تمت مع كل من مصر و الأردن ومنظمة التحرير، ولا تلغيه إجراءات التطبيع المتتابعة من دول الخليج وغيرها التي تتزاحم فيما بينها في أي منها الأكثر قدرة على الوصول إلى تل أبيب لكسب رضا نتنياهو، لذلك لا يوجد سبيل إلى إنهاء هذا الصراع حتى يعم الأمن والاستقرار في المنطقة العربية والشرق الأوسط كله، إلا بهزيمة الفكر الصهيوني العنصري التوراتي الذي يقوم على الاستيطان والإجلاء والتطهير العرقي وانصهار اليهود في فلسطين التاريخية كطائفة دينية أو عرقية، كما هو حال الطوائف الدينية والعرقية في دول المنطقة والعالم، والوسيلة إلى ذلك باستلهام تجارب الدول التي قامت على أساس علماني، حيث ارتكزت كل مكوناتها المتعددة على الانصهار في دولة ديمقراطية واحدة تسودها المساواة بعيدًا عن أي تمييز قومي أو ديني؛ لذلك لا تسوية سياسية للصراع العربي الصهيوني إلا بحل القضية الفلسطينية على أساس الحل الديموقراطي، لأنه إلى جانب المسألة الوطنية الفلسطينية ثمة "مسألة يهودية" لا مناص من معالجتها، وهذا ما سيكون عبر إلحاق الهزيمة الكاملة بالمشروع الصهيوني والتعايش المشترك في ظل الدولة الديمقراطية الواحدة التي ستقوم على أنقاض دولة الكيان الصهيوني.