نحو استنهاض وطني بعد فشل التسويات

حجم الخط

التوقع بفشل المخطط الأمريكي الصهيوني التصفوي المعروف بصفقة القرن، يقوم على كونه يركز على تطبيق الرواية اليهودية في أي حل سياسي قادم بدلًا من تركيزه على تطبيق قرارات الشرعية الدولية، وتجاوز مشروع حل الدولتين الذي يحظى بإجماع دولي إلى تعثر دائم نتيجة لتعنت الكيان الصهيوني؛ بدواعي الأمن القائم على تكثيف حملة التوسع الاستيطاني، وكذلك عدم توفر إمكانية موضوعية حالية للتوصل إلى حل ديمقراطي للمسألة الفلسطينية؛ بسبب عنصرية الفكر الصهيوني التوراتي، الذي يقوم أساسًا عليه المشروع الصهيوني.

لعل فشل أو تعثر مشاريع التسويات السياسية الثلاث المطروحة في المرحلة الحالية لحل القضية الفلسطينية، هو الذي سيدفع الجماهير الفلسطينية في النهاية، رغم ما تعانيه من أزمات اقتصادية واجتماعية، إلى إيلاء قضية العلاقة بين النضال الوطني وأدواته أهمية كبيرة، حيث بات الخطاب السياسي الفلسطيني والشعبي منه بشكلٍ خاص، يحمل في مضمونه عبارات واضحة عن اتهام فصائل منظمة التحرير الفلسطينية بالضعف أمام هجمة التحديات الطارئة الناجمة عن تواطؤ الرجعية العربية مع مشروع التصفية الأمريكي عن طريق مهادنة الصهيونية بالقيام بإجراءات التطبيع المتتابعة مع الكيان الصهيوني.

مع الدعوة إلى ضرورة التجديد في أداء العمل الوطني، فمن الضروري أن تشمل عملية التجديد استنهاضًا وطنيًا نوعيًا جديدًا قد يكون على شاكلة انصهار قوى سياسية لا خلافات بين برامجها في إطار سياسي وتنظيمي واحد؛ للتخلص من الضعف الذي تعانيه بسبب التعدد الفصائلي، الذي حولها إلى شرذمة كمية، غير قادرة على تجاوز ما هو موجود الآن في الساحة الفلسطينية من واقع سياسي انقسامي متردٍ. أي بوضوح طور جديد من الضروري أن يتشكل في مسيرة الحركة الوطنية الفلسطينية في مواجهة ما يخطط للقضية الفلسطينية من محاولات التصفية التي تشارك فيها هذه المرة أطراف رئيسية في النظام السياسي العربي الرسمي؛ وهكذا هي طبيعة الثورات الوطنية في بلدان العالم الثالث، فهي تشهد في مسيرتها الكفاحية مراحل نضالية متتابعة وبأطر سياسية وتنظيمية جديدة، من أجل إنجاز هدف الاستقلال الوطني الكامل، وقد سبق أن مرت الحركة الوطنية الفلسطينية في مسيرتها الكفاحية بهذه التجربة. فبعد انتهاء الحرب العالمية الأولى التي أسفرت عن هزيمة الدولة العثمانية، ووضع فلسطين تحت حكم الانتداب البريطاني، الذي فتح المجال واسعًا للغزوة الصهيونية، تشكلت الأحزاب السياسية الفلسطينية ذات المنشأ الطبقي الإقطاعي التي قادت النضال، وكانت وسيلتها التعبوية الوحيدة الفكر الديني كعامل أساسي في مواجهة الحركة الصهيونية التي اختارت فلسطين من عدة مواقع لتقيم عليها الدولة اليهودية.

على مستوى التمثيل الرسمي تبوأت الهيئة العربية العليا بقيادة الحاج أمين الحسيني قيادة النضال الفلسطيني حتى حدوث النكبة عام 48، بهزيمة الجيوش العربية أمام العصابات الصهيونية المسلحة؛ لتتحول الهيئة العليا بعد ذلك إلى مجرد مكتب في بيروت، ليس له أي فاعلية سياسية. في بداية الخمسينيات شهدت الساحة السياسية الفلسطينية ولادة أحزاب سياسية، هي في الواقع كانت تشكل فروعًا لأحزاب قومية ودينية وأممية، وكانت هذه الظاهرة السياسية والفكرية تعبيرًا عن فشل الحركة الوطنية الفلسطينية التي يقودها الإقطاع السياسي الديني؛ وكذلك فشل النخب البرجوازية الوطنية عن توفير متطلبات الانتصار على المشروع الصهيوني المدعوم استعماريًا، غير أن هذه الأحزاب السياسية ظلت مرتبطة بنهج وبرامج الأحزاب "الأم"، مما شكل حالة يقظة في الوعي الوطني الفلسطيني، بإبراز الهوية الوطنية في مواجهة المشروع الصهيوني، وكانت المقاومة المسلحة بعد هزيمة يونيو حزيران 67، بداية لولادة الحركة الوطنية الفلسطينية المعاصرة التي أطلق عليها اسم الثورة الفلسطينية المعاصرة، بفصائلها المتعددة الحالية. وكان أيضًا التوجه نحو اليسار على نطاق واسع؛ بسبب ما يسمى فشل أنظمة البرجوازية الصغيرة العربية في قيادة النضال الوطني والقومي، وهو الشيء الذي كانت تفتقر إليه الحركة الوطنية الفلسطينية في عهد نشأتها الأولى.

على صعيد تحليل الواقع السياسي الفلسطيني الآن، يتمحور الخطاب السياسي بشكلٍ أساسي حول إعادة الاعتبار لمنظمة التحرير الفلسطينية، بعد أن تهمش دورها بعد اتفاقية أوسلو بقيام السلطة الفلسطينية، وهو مطلب تفرضه الضرورة السياسية بعد الانتهاكات المتكررة لبنود الاتفاقية المشؤومة، ولكنه في الوقت نفسه، لا يعبر عن حقيقة ماثلة، وهي أن فصائل وأحزاب منظمة التحرير الفلسطينية التي تشكلت قبل خمسين عامًا تقريبًا هي محتاجة إلى عملية تجديد في قياداتها وكوادرها، وتجديد أطرها وطرق أساليب عملها، وذلك كضرورةٍ سياسيةٍ ووطنيةٍ حتى تكون قادرة على تحقيق مهامها في إفشال مشاريع التصفية؛ وكذلك في تحقيق الوحدة الوطنية بإنهاء الانقسام السياسي؛ الأمر الذي يعني ضرورة انبثاق حركة تجديد في مسيرة النضال الوطني الفلسطيني، بأطر وقوى سياسية فاعلة، واصطفاف طبقي يضع جماهير الكتلة التاريخية الشعبية في موقع الصدارة في التحالف الوطني العريض.