أبـو علي مصطفى: حكاية فلسطيني استثنائي

حجم الخط

تمرّ الذكرى الثامنة عشرة على استشهاد قائد فلسطيني استثنائي, تجلّت فيه كل صفات وسجايا المناضل الثوري الذي لم يعرف طريقًا للحياة والعزّة والكرامة, إلا عبر طريق النضال الثوري, استثنائيًا في كل مراحل حياته الكفاحية, واستثنائيًا في ثباته وشجاعته, وعنفوانه, واستثنائيًا في قوة منطقه الوطني والثوري, واستثنائيًا في وضوحه وشفافيته في قول الحقيقة حتّى حين يكون علقمها أكبر مرارًا, لا يخشى لومة لائم, لا يعرف معنىً للمجاملة والنفاق والتساوق وعدم المبدئية.. ربما يكون مردّ ذلك حكمةً ووعيًا منه في قول الحقيقة دائمًا دون غيرها, غير أنَّ بنيته السيكولوجية منذ صغره تأسست على الصدق والمجابهة مع الأخطاء والخطايا, حيث كان منسجمًا مع نفسه في كل مفاصل حياته, فهو ابن الطبيعة في جنين التي أمدّته بسماتها ووضوحها وضوئها وتضاريسها, واخضرار مروجها, فكان واضحًا كما الطبيعة في وضوحها.

   كان استثنائيًا حين كان غضًا في السابعة عشرة من عمره, فاعتلى سدّة العمل الوطني والقومي, فشبّ على الطوق مستعجلًا, ونضج وطنيًا مبكرًا, فالنكبة كانت قاسية عليه وعلى شعبه, أذاقت بويلاتها عموم الشعب الفلسطيني, ولم يكن أبو علي إلا واحدًا ممن أصابه "مرض الوطن" مبكرًا, فسارع إلى الالتحاق بحركة القوميين العرب؛ ليكون ابنًا بارًا لها, ولم يمضِ وقتٌ طويل على التحاقه حتّى أصبح نزيل سجن الجفر في الأردن, حيث حكم عليه خمس سنوات, كان قدره أنْ يدفع الضريبة الوطنية، وهو لم يزل في ريعان شبابه, وكبر الرجل في وعيه ومداركه الوطنية والقومية, وزاد عنفوانه, فأقبل على الكفاح بدون انتظار أنْ تتبلور فكرة الثورة, حين التحق بدورة عسكرية في معسكر "إنشاص بالقاهرة" عام 1966.. ليتخرّج منه مقاتلًا واعيًا, فأسّس الخلايا العسكرية في الضفة الغربية, وما لبث أنْ داهمته هزيمة حزيران, فتحوّل إلى قائد عسكري في الضفة ثم الأردن, وخاض معارك الشرف في الأردن؛ حفاظًا على الثورة, ويلتحق بعد ذلك بالثورة في لبنان, قائدًا في حزبه وفي ثورته..

   أراد أنْ يبقى جنديًا وقائدًا دون ألقاب, ودون هيلمانات, وارتضى لنفسه أنْ يكون مثلًا لنكران الذات, الباحث دومًا عن المثل العليا التي يتحلّى بها القائد.

   ويتهم الرجل "باليمينية" من اليسار الطفولي؛ لأنَّ كفاحيته كانت أعلى من ثرثراتهم, فأقبل على النظرية الثورية, والتجارب الثورية التي انتصرت على الاستعمار والاستبداد, وتوسّعت مداركه ووعيه الثوري, فأدرك حينها أنَّ لا ثورة بدون نظرية ثورية, وأنَّ الحقيقة وحدها هي الثورية, كما أدرك أنَّ الممارسة الثورية هي ذاتها النظرية الثورية, والأخيرة ليست إلا هي تنظير الواقع واشتقاق السياسات لأجل تغيير الواقع, وليست عملية تأملية فلسفية مجرّدة, إنما مقرونة بالنشاط العملي والممارسة الملموسة, وهنا تفوّق الرجل في يساريته وفي كفاحيته, وانتصر في لعبة اليسار واليمين, فكان استشهاده خاتمة كتاب الديالكتيك الثوري.. وانطبق عليه قول لينين "الوقت لا ينتظر"، "وأنْ تعيش الثورة, أمر أكثر متعة وإفادة من الكتابة عنها"؛ فكتب بدمه ولحمه حكاية فلسطيني استثنائي.

   أبو علي كان صنوًا لأبي جهاد الوزير, والرنتيسي والقسّام وعبد القادر الحسيني.. وصنوًا لبطل تراثنا الفلسطيني "ظريف الطول" الذي غنّت له نساءنا أجمل الأشعار.. ولا زال شعبنا يبحث عنه في كل جولة صراع مع عدوّنا الصهيوني.

   كان استثنائيًا في استشهاده, فقد أدرك العدو مَنْ هو هذا القائد, وماذا يمثّل في الفكر الثوري, وفي الممارسة, وماذا يشكّل لدى جمهوره وحزبه وتنظيمه, لذا؛ خصص جلسة خاصّة للمجلس الوزاري المصغّر للنظر في هذا القائد العائد إلى أرض الوطن, لا ليلتحق بركب أوسلو, وإنما لينهض بالحالة الوطنية والتنظيمية داخل حزبه؛ لمواجهة الانحدار السياسي والكفاحي الذي صنعته اتفاقات أوسلو, كان العدوّ يترصّد تصريحاته ومواقفه وحركته, فقد سمعه وهو يقول على جسر العودة "إننا لا نعود لنساوم وإنما لنقاوم"، هذه الكلمة الشجاعة وغير المألوفة لدى ركب أوسلو, كانت مدعاة لأنْ يفكّر العدو كيف يتعامل مع هذا القائد القادم, الذي يحمل سلاحًا سياسيًا وتحريضيًا في بيئة أوسلوية, تتشكّل على ثقافة التسوية وأوهام السّلام..!!

   لقد قرأ أو سمع العدو سجال هذا القائد مع الأخ أبو الأديب في المجلس المركزي عام 2000, حين ردّ أبو الأديب على القائد أبي علي مصطفى في سياق كلمته ضد أوسلو وكامب ديفيد, ودعوته للعودة إلى النضال والانتفاضة.. وكان ردّ أبو الأديب عليه وهو على منصّة الرئاسة "أنتم دخلتم القفص اليوم معنا..!!" فردّ عليه أبو علي مصطفى "نحن لم ندخل القفص..إذا كنتم رضيتم دخول القفص.. فنحن لن نكون في القفص.."، تلك كانت أبلغ الكلمات التي تنصت عليها العدوّ, وعرف معناها وتداعياتها, حينها تطوّر الخلاف؛ فخرج الرفيق أبو علي مصطفى من الجلسة محتجًا على حديث أبو أديب, فلحق به الأخ أبو عمّار مطيبًا خاطره, وأرجعه إلى المنصّة ليقول مجددًا كلماته الواضحة..

   كان العدوّ يعرف أنَّ القائد أبا علي مصطفى يتنقّل في محافظات غزّة والضفّة ومدنها, ويلتقي مع الجماهير ويحرّضها على النضال والمواجهة, ويحدد لها طريقها وأهدافها على غير اتفاق أوسلو, وكان العدو يعرف أنَّ القائد يجتمع مع كوادر وأعضاء الجبهة الشعبية بُغية استنهاض الحالة التنظيمية والكفاحية لدى حزبه وتياره الوطني، كما أعطى وقتًا وجهدًا مميزًا على طريق توحيد قوى اليسار، حيث باغتياله تمَّ قطع المهمة التي أولاها القائد أبو علي أهمية خاصة.

   لكل ذلك؛ فقد خصّص العدو جلسته الخاصة "المجلس الوزاري المصغّر" لتحديد كيفية التعامل مع هذا الجيفاري القادم إليهم, دون أنْ يفقد ثوريته ووطنيته, فقرر هذا المجلس وعلى وقع كلمات المجرم شارون "يجب أنْ نتخلّص منه"، اغتيال القائد عبر الاستهداف المباشر بصاروخ من طائرة الأباتشي الإسرائيلية ليصيبه مباشرة، وهو يجلس خلف مكتبه في مدينة رام الله.

   من الطبيعي هنا  أنْ يطرح سؤالٌ استثنائيٌ مع هذا الاستثناء في الاستهداف لقيادي فلسطيني في الضفة الغربية.. لماذا يستهدف القائد أبو علي مصطفى في حينه كأول قائد فلسطيني بهذا المستوى دون غيره من القادة في الضفة؟!

   إنَّ العدو الصهيوني هو وحده الذي أجاب عن هذا السؤال حين قال: "إنَّ هذا الفدائي خطر على أمن إسرائيل"، وببساطة، إنَّه لم يكن من طراز هؤلاء القادة الذين اندمجوا في لعبة أوسلو.. ونهج أوسلو.. وطريق أوسلو.. ومغانم أوسلو..

   وحين أراد الأخ أبو عمّار أنْ يغير قواعد اللعبة, وبات يشكّل خطرًا أمنيًا على الاحتلال.. تمَّ اغتياله بطريقة مختلفة, فكل مَنْ يخرج على نهج أوسلو عمليًا مصيره الاغتيال, حتّى وإنْ كان أساسًا في صناعته، وهذا ما حصل مع قادة في قطاع غزة على رأسهم الشيخ أحمد ياسين والرنتيسي وغيرهم.

   الاستثنائية في هذا الرجل لم تتمظهر في مواقفه الوطنية والثورية فحسب, إنما تجلّت في سجاياه الشخصية, وطرائق حياته وزهده, وبساطته, وتواضعه, ونزاهته..

  حين وطأت قدماه أرض الوطن, أفرزت السلطة الفلسطينية له سيارة من طراز (B.M.W) حديثة الموديل, فامتعض الرجل من هذه "اللفتة الإيجابية" من السلطة, معتبرًا ذلك لا يستقيم مع مناضل لم يؤمن يومًا بالمظاهر والاستعراض, ولا مع بنيته الشخصية المتواضعة, فرفض استلامها, وطالب بتغييرها إلى سيارة من نوع هوندا أقل في جودتها وموديلها, وأقل كلفة ماليًا, ولا تثير لغطًا أمام الجمهور, كان هذا الموقف الرمزي في السلوك يعبّر عن بناء داخلي سيكولوجي ثوري؛ فالثوار لا يحتاجون إلى ترف المظاهر والاستعراض, ولا تخدعهم مباهج الحياة والجاه والسطوة؛ فالرجل كان كبيرًا في تواضعه, لا تعجبه جوقة المرافقة والحراسات والهيلمانات التي ترافق أكثر "القادة" الصغار والكبار, وعلى مدار سنوات عمله كان لديه سائقًا واحدًا يعرفه القاصي والداني "مالك"، الذي عاد إلى غزة في منتصف التسعينيات، فاستبدله بالمرافق أبو نسيم, الذي بقي معه حتّى استشهاده. هكذا كان القائد في سلوكه اليومي بعيدًا عن البهرجة والأضواء, متفانيًا في أداء عمله كنائب للأمين العام، ومن ثم أمينًا عامًا منكبًّا على قراءة تقارير وأوراق الحزب التي تتجمّع على مكتبه, ليعرف كل صغيرة وكبيرة, سياسية وتنظيمية, ومشاكل الحزب وأزماته الداخلية والخارجية..

    أتذكر حين طلبت منه فضائية الجزيرة الحديث عن أوسلو في برنامج الاتجاه المعاكس, رفض الاستجابة للطلب قائلًا: "هذه مسخرة سياسية, واستهلاك إعلامي, لن يفضي إلا إلى مزيد من الفوضى ومزيد من الخلافات, ومزيد من التطبيع مع الكيان الصهيوني"، وبعد فترة بالكاد تمَّ إقناعه من رفاقه بأهمية حضوره على الفضائية؛ لتوضيح موقف الجبهة الشعبية من أوسلو وتداعياتها الكارثية, في برنامج "بلا حدود" وليس الاتجاه المعاكس، وحين ظهر لأول مرّة لم يكن يملك جهاز رسيفر والدش اللاقط الذي يوفّر القنوات الفضائية..!! ولم يسمح لهذا الجهاز في بيته إلا في عام 2000 قبيل استشهاده بعام واحدٍ فقط.

    كما من الجدير ذكره أنَّه في عام 1988 أخذ (م. س) للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين قرارًا بتعيين الرفيق أبو علي مصطفى عضوًا باللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية, ولم يكن الرفيق يرغب في ذلك مطلقًا, ولكنّه التزم بالقرار المركزي, وهذه العضوية كانت تستدعي أنْ يكون الرفيق مقيمًا في تونس؛ الأمر الذي أجبره أنْ يقيم هناك لوحده دون عائلته, حيث وفّرت له المنظمة بيتًا في تونس, ولم تمضِ أيام على وجوده هناك, حتّى ضاق ذرعًا بهذه الإقامة التي اكتشف من خلالها حجم الفساد في المنظمة, وحجم النفاق, والتدليس, والكذب بين القادة المقيمين في تونس, وبدأ يعاني من ضغوط هذه الإقامة, إلى حين أخذ قراره بالاستقالة من اللجنة التنفيذية والعودة إلى دمشق, قائلًا إنَّ مكانه هنا مع الحزب وليس هناك في بيئة الفساد, وقبل أنْ يعود إلى دمشق, أخذ قراره أيضًا بعودة كل الرفاق المركزيين من تونس إلى دمشق.. وقام بعدها بكتابة دراسة نقدية جادة وصارمة عن واقع المنظمة؛ نشرت في أكثر من وسيلة إعلامية مقروءة؛ هكذا كان الرجل, لا يسعى إلى المناصب والمراكز, كان يرى نفسه مناضلًا وليس موظفًا في مركز قيادي, كان يرى أنَّ دوره يجب أنْ يكون داخل حزبه ورفاقه, وبين شعبه, وأنْ يكون على تماس مع وطنه, أما "تونس" فهي ملهاة للمناضلين, وإضعاف للثورية, وحياة طاردة للمناضلين.

   تلك كانت مشاهد حيّة على شخصية الرجل, وصرامته وتواضعه, ونزاهته, ونزوعه دائمًا نحو استمرار الثورة حتّى في أصعب الظروف وأخطرها ..