الحكيم ورؤيته للجماهير العربية

حجم الخط

إذا كان من الصحيح من وجهة نظر علمية وماركسية عدم تاريخ العمل الثوري بشعب ما ولحزب ما بشخصية القائد، إلا أن هذا لا يلغي دور ذلك القائد بشخصيته الكايرمزية وتوجهاته وتأثيره الكبير الذي ينبع أساساً من وعية وتضحويته. تلك إشكالية العلاقة بين التاريخ ودور الفرد، والتي تفرض، كالعادة في تحليل العديد من الظواهر التي تقتضي وجود طرفي معاجلة، وجود ما اصطلح على تسميته (بالحد الفاصل) بين طرفي العلاقة. تلك الإشكالية نواجهها على سبيل الأمثلة لا الحصر، في تحليل العلاقة بين دور ماركس وصياغة الفكر الماركسي، لينين والثورة الاشتراكية، كاسترو وجيفارا والثورة الكوبية.

ذلك المدخل النظري/ الإشكالي يمكن له أن يساعدنا لفهم علاقة التأثير بين الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين والقائد المؤسس جورج حبش . فإذا كان من الصحيح أن الجبهة الشعبية نتاج مخاض سياسي تنظيمي عاشته حركة القوميين العرب في الستينيات، تفاعل، أي المخاض، وتأثر بهزيمة العام 67 لينتج الجبهة الشعبية، غير أن دور الحكيم، دون إهمال حفنة المؤسسين كأبو علي وكنفاني وأبو ماهر وصلاح، لعب دوراً خاصاً ومؤثراً في التأسيس والأهم في صياغة التوجهات البرنامجية الاستراتيجية للجبهة، وما يدعم هذا الوقائع الموثقة التي كتبها الحكيم بنفسه في مذكراته وما كتبه مَنْ عايشه وناضل بقربه.

وحسب قناعتي فإن ما ميز الجبهة الشعبية تاريخياً، وأود أن أقول حاضراً! فهو ذلك الجمع الخلاق بين الفكر الماركسي والفكر القومي وهو ما أعتقد أنه من الصوابية بمكان تسجيله للرفيق الحكيم. لقد سجل تاريخ الحركة الشيوعية العربية إدارة الظهر للمسألة القومية وركنها الرئيس بناء دولة الوحدة العربية كجزء من مشروع نهضوي عربي موحد، يستهدف القضاء على الاستعمار والاستغلال وبناء الاشتراكية كهدف نهائي. وأيضاً هنا يمكن تلمس التأثير الستاليني على فهم المسألة القومية وقضية الأمة ونسخ ذلك الفهم، كالعادة، في برامج الأحزاب الشيوعية. ومن الناحية الثانية كان قصور الفكر القومي لحركة القوميين العرب يكمن، في أحد تجلياته، بعدم طرح المسألة الطبقية. وإذا كانت الحركة قد بدأت قبل العام 67 بتلمس المسألة الطبقية، إلا أنها ظلت أسيرة للفهم القومي البرجوازي الذي يفتقد للمحتوى الطبقي.

هنا بالذات بتقديري نجحت الجبهة الشعبية، وبتأثير الحكيم في المزاوجة، أو الجمع بين الفكر القومي والفكر الماركسي والذين كان على النقيض الدموي أحياناً في تراث الحركة الشيوعية. فالوحدة العربية، كشعار وهدف قومي بامتياز غدت مكون رئيس من مشروع استراتيجي طبقي وهو المجتمع الاشتراكي العربي، ما استدعى تاريخياً السعي لبناء الأداة الثورية لتحقيق هذا الهدف، الأداة التي تمثلت ببناء حزب العمل الاشتراكي العربي، كحزب ماركسي موحد على مستوى الأقطار العربية لتحقيق هذا الهدف.

من هذه الزاوية يمكن تلمس رؤية الحكيم والجبهة الشعبية، للعلاقة مع الجماهير العربية. وتلك الرؤية كما سنلحظ، وكما برزت في تاريخ الثورة الفلسطينية، كانت على النقيض مع رؤية اليمين الفلسطيني صاحب شعار (عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول العربية) والذي سيترجم لاحقاً برفض العلاقة مع قوى التحرر الوطني العربية، باعتبار تلك القوى هي ممثلة طموحات الجماهير لا الأنظمة التابعة والعميلة.

لقد تجسدت تلك الرؤية بداية كما ذهبنا بتأسيس حزب العمل الاشتراكي العربي، ولكنها تعمقت لاحقاً بعلاقات تنسيقية ونضالية مع مختلف تعبيرات حركة التحرر العربية بمختلف توجهاتها، الشيوعية واليسارية الجديدة والقومية والناصرية، علاقات كان من نتيجتها تعاون تنظيمي ونضالي وعسكري، بات اليوم خارج نطاق السرية من مثل العلاقات مع الشيوعيين اللبنانيين والاشتراكيين اليمنيين ومنظمات اليسار واليساريين في المغرب وتونس وعُمان و البحرين .

إن رسم تلك العلاقة كنتاج للرؤية أعلاه كان ينبع من حقيقة القناعة الراسخة لدى الحكيم، بأن المعركة مع الكيان الصهيوني معركة قومية لا فلسطينية حصراً، باعتبار أن وجود الكيان يهدد ليس فقط فلسطين باستعمارها، بل ومجمل الشعوب العربية، إضافة إلى أن معركة تحرير فلسطين تستلزم جهد قومي عربية يتجاوز حدود ال قطر ية، لما لهذا التحرير من تثوير لكل المنطقة العربية على طريق وحدة شعوبها وتحقيق المشروع النهضوي العربي.

ولا يخفى على أحد ممن تابع مواقف وخطابات وأحاديث الحكيم، وكذلك مَنْ يطلع على وثائق الجبهة أن قومية الجبهة الشعبية، ناهيك عن ماركسيتها، بارزة وجلية، وبروزها هذا لم يتوقف عند حدود الوثائق والخطابات، بل تعداه أن قوميتها وماركسيتها تجسدتا في بناء العلاقات النضالية مع الشعوب عبر حركاتها الوطنية. ومع ذلك وُجد في الساحتين الفلسطينية والعربية مَنْ يعيب على الجبهة (قوميتها) وكأن قوميتها تلك مسبة سياسية!!

أخيراً، فإن الظروف التي يشرحها الحكيم في مذكراته قد استدعت حل حزب العمل الاشتراكي العربي، كأداة تنظيمية للمشروع القومي النهضوي بأفق اشتراكي، ولكن هذا الحل، وحسب قناعتي، يظل من الأخطاء الجسيمة التي أقدمت عليها قيادة الجبهة، فمن الناحية المنطقية سياسياً أن هدفاً قومياً ثورياً ومشروعاً يتطلب أداة ثورية له، وهو أمراً ملحاً اليوم، ربما أكثر من عقد السبعينيات.