الانقسام السياسي بين خياري المفاوضات والمقاومة

حجم الخط

الخلاف السياسي بين خيار المقاومة وخيار المفاوضات كما هو قائم الآن في العمل الوطني الفلسطيني لا يبرر استمرار الانقسام السياسي بين الضفة الغربية المحتلة وقطاع غزة المحاصر طيلة مدة ثلاثة عشر عامًا أو أكثر، وإفشال كل الأدوار التي قامت بها دول مختلفة آخرها كان الدور المصري القائم حاليًا والمقدر له أن يستمر برعاية جهاز المخابرات، وذلك بحكم العلاقة الجغرافية والأمنية التي تربط القطاع بسيناء، لكنه لم يسجل أي تقدم يذكر في موضوع المصالحة الوطنية رغم جولات المباحثات والتوصل إلى اتفاقيتي 2011 و 2017 التي تعثر تطبيقهما بينما في موضوع التهدئة في القطاع، فقد تم التوصل إلى تفاهمات أمنية من شأنها استمرار السماح للأموال ال قطر ية بالعبور إلى القطاع المحاصر، وكذلك الحديث عن هدنة طويلة قد تمهد الطريق لإقامة ما يسمى دولة غزة مع إضافة أراض لها من شمال سيناء، مما يعني عمليًا التمسك بالمصالح التنظيمية والفئوية والمحافظة عليها كأولوية سياسية واقتصادية. 

الخلاف السياسي بين الخيارات النضالية هو شيء مألوف في حركات التحرر الوطنية، لكنه دائمًا أو على أكثر الأحوال يبقى محصورًا في إطار الخطاب الإعلامي، بحيث لا يشكل تهديدًا للوحدة الوطنية، بما يحدثه على أرض الواقع السياسي المعاش من انقسام سياسي وإداري، كما هو الحال الذي عليه الوضع الفلسطيني الآن، حيث حكومة الأمر الواقع في القطاع التي تسيطر عليها حركة حماس وحكومة السلطة الوطنية في رام الله بقيادة حركة فتح، وكلتا الحكومتين لهما اتصالات سياسية مع قوى إقليمية ودولية، بما يعني أن الكيان الوطني الفلسطيني في أراضي عام 67 التي من المقرر أن تقام عليها الدولة الفلسطينية المستقلة حسب مشروع حل الدولتين تسوده الآن حالة من التفكك؛ الأمر الذي يلحق أكبر الأضرار بالقضية الفلسطينية كقضية وطنية تحررية بتحولها إلى قضية صراع على السلطة السياسية، كما هو جار الآن في بعض الأقطار العربية، حيث الفوضى السياسية والأمنية المخطط لها من قبل قوى إقليمية ودولية معادية للأمة تأتي في مقدمتها الولايات المتحدة والكيان الصهيوني، وهو وضع يؤهل المنطقة العربية برمتها أيضًا إلى إحداث تجزئة سياسية جديدة جراء سياسة الخلاف بين الأنظمة السياسية وقوى المعارضة فيها.

إن لكل فصيل في مرحلة التحرر الوطني الحق في أن يعتقد ما يشاء من أساليب النضال ويعمل على تأكيد صحته على النحو الذي لا يضر بالوحدة الوطنية، وفن السياسة هو في البحث عن صيغ مشتركة في هذه المرحلة الكفاحية أساسها تحقيق المصلحة الوطنية باعتبارها هي المصلحة العليا التي يجب الاهتمام بها والسعي إليها في مواجهة التحديات الخطيرة؛ إذ لا يعقل أن يبقى الانقسام السياسي هو المأزق العام للحركة الوطنية الفلسطينية بدون حل بسبب التمترس عند خياري المفاوضات والمقاومة المختلف عليهما، وفي وقت يتوحد فيه "المجتمع" الإسرائيلي خلف أحزابه السياسية اليمينية المتطرفة في سعيها لتحقيق التسوية السياسية للصراع الفلسطيني الإسرائيلي حسب الرواية اليهودية، والتي جاءت بنود صفقة القرن لتحققها بالكامل، ولتعمل أيضًا على تدمير ما بقى من آمال وفرص لتنفيذ مشروع حل الدولتين الذي يحظى بإجماع دولي.

إن المصلحة الوطنية العليا تستدعي كضرورة سياسية البدء فورًا وبدون إبطاء بتحقيق المصالحة الوطنية بعيدًا عن وضع العراقيل التي تستند إلى مجموعة من المصالح التي لم تستوعب المستجدات التي طرأت على المستوى الإقليمي والدولي لمواجهة هذه الصفقة التي تجد من بعض الدول العربية الاستعداد الكافي لتطبيق فصولها تباعًا ( السودان مؤخرًا)، وفي توافق زمني كامل مع تسارع دعوات اليمين الإسرائيلي لترجمة مبادئها بصورة فورية على الأرض، وهو ما جعل الحكومة الإسرائيلية الحالية حكومة تصريف الأعمال برئاسة نتينياهو الذي يحاول التملص من الإجراءات القانونية التي تجري ضده تنصاع لهذه الدعوة؛ فتقوم بتكليف لجنة فنية لرسم خريطة جديدة للكيان الصهيوني تضم الكتل الاستيطانية الكبرى وغور الأردن وشمال البحر الميت، أي أن الصفقة التصفوية قد بدأ تطبيقها بالفعل على أرض الواقع، وهو ما يجعل مسيرة النضال الوطني الفلسطيني تدخل مرحلة جديدة تحتاج إلى صيغة سياسية وتنظيمية تتضمن تطوير آليات الممارسة الديموقراطية في إطار العمل الوطني، وذلك لوضع حد للخلاف السياسي بين خياري المفاوضات والمقاومة، خاصة أن الحياة السياسية الفلسطينية القائمة أصلًا على التعدد الفصائلي والديموقراطية، قد تستوعب هذا الخلاف السياسي والأيديولوجي بدون التمسك بالانقسام تحقيقًا لمصالح تنظيمية وفئوية.