كورونا والعدمية ونتنياهو

حجم الخط

كيف حدث ما حدث؟ وكيف يصبح العالم بعد مائة عام أو أكثر على الإنتاج العلمي المكثف والرقابة الصارمة على كل شيء على الكوكب، مهددًا فجأة تهديدًا خطيرًا غير متوقع، تقف أمامه الأنظمة الصحية حول العالم عاجزة مترددة مصابة بالهلع؟ لا فرق هنا بين نظام غني في بلد من العالم الأول كبريطانية أو ألمانيا أو الولايات المتحدة، وبين بلد فقير لا يكاد سكانه يجدون قوت يومهم كالصومال أو هاييتي. كيف تمكّن هذا الفيروس الخفي المتسلل من إثارة الرعب ليس في قلوب الناس العاديين، بل في قلوب وعقول أنظمة كاملة؟

لعل هذه الأسئلة هي التي لا تُطرح أبدًا في ظل الأزمة العالمية، ولعل من الممنوع طرحها، لأنها تكشف أن الوباء الأصلي كان في شكل إدارة هذا العالم القائمة على النهب والاحتكار وأداتية العلم واحتقار المعرفة البشرية، كل هذا في سبيل توطيد الرصد المالية وبناء أسلحة فتاكة لا يمكنها مواجهة فيروس مجهري لا يعترف بقدرة النظم ولا بمناعتها العسكرية المادية.

كورونا والعدمية

طالما كان العلم ومنتجاته سلاحًا مزدوج الحد، استخدم على وجهي المنفعة العامة الإنسانية أو لمنافع السياسة المرتبطة بهوس السيطرة والتحكم.

وكما برز المرض كأداة ومنتج للعلم في الهيمنة والإبعاد عبر نشره في الأوساط الاجتماعية المطلوب حذفها من السياق، كما فعل المستعمرون الأوربيين في القارة الأمريكية ضد الشعوب الأصلية، كذلك اُستخدم العلاج كسلاح آخر أيضًا، ليُمنح أو يُمنع حسب مصالح المتحكمين بهذه القوة.

في زمن كورونا، يمكن بسهولة استعادة الكثير من النماذج التاريخية للاستخدام الأداتي للعلم، ومنتجاته في سياق الطب بالذات، ولكن أيضًا في سياقات أخرى سرعان ما تتقدم إلى الواجهة. وكمثال على هذه النزعة لنا أن نعيد التذكير بأن الرأسمال الذي يتحكم بسوق العمل وبأدوات الإنتاج وحياة قوى العمل، هو نفسه الذي يتحكم اليوم بإنتاج دواء المرض القاتل عبر الشركات الإمبريالية لصناعة الدواء ويتحكم بمجرى المعلومات الحصري حول هذا المرض عبر مؤسسات أنشأها خصيصًا تدعي احتكار المعرفة ولكنها في ذات الوقت تحتكر الأكاذيب وتصديرها.

ولعل هذا يذكرنا بجوهر الفلسفة الرأسمالية التي قامت عليها مجتمعات الغرب الإمبريالي في خط معاد لمصالح عموم الجماهير الكادحة، في صيغة حددها الوضعي أوغست كونت (1798-1857)، الذي جاءت فلسفته كرد فعل على النمو المتصاعد لحركة الكادحين التحررية، والذي تجلت رجعيته الاجتماعية باعتباره المجتمع كائنًا اجتماعيًا، تتعاون أعضاؤه جميعًا لما فيه «مصلحة الكل» وبنفس الوقت، وفي تناقض صريح اعتبر أن المصلحة السياسية يجب أن تتركز بيد « أقطاب الصناعة» لا سيما المصرفيين ورجال البنوك، رافضًا فكرة المساواة بين الجميع، ورافضًا لسلطة الشعب.

لاحقًا انضم هربرت سبنسر (1820-1903) إلى تيار اللاعقلانية والعرقية، عبر نظريته العضوية في المجتمع، والتي يعرضها في مؤلفه الرئيسي (المبادئ الأولى) لتشمل عنده البيولوجيا والسوسيولوجيا والسيكلوجيا والأخلاق، معتبرًا البيولوجيا العلم العياني الرئيسي، مفترضًا أن الحياة تحكمها القوانين البيولوجية، مؤكدًا أن الفقراء بطبيعتهم لا يستحقون، وأن الواجب ألا يشجع بقاءهم أو نسلهم. كل هذه الأفكار نجدها في السلوك العلني والإعلامي لزعماء الغرب الإمبريالي، ويمكن العثور عليها بسهولة في تحليل سلوك شخص كدونالد ترامب، عرف بعدائه للعلم ولذوي الاختصاص، ليظهر في تصريحاته وردوده على الصحافة عدميًا مفارقًا للواقع، لا يرى إلا رأس المال كمحدد لأي سياسة، حتى عندما تكون حياة الملايين على المحك، مستندًا إلى إرادة القوة وعنجهية الاستبداد، وكأنه يعيد مقولات نيتشه العدمية، الذي زعم أن العالم المتكون مستعصٍ على المعرفة؛ لأن جهازنا المعرفي ليس مهيئًا للمعرفة، بل لامتلاك الأشياء بهدف الإبقاء على حياة إرادة القوة وتدعيمها، ولنتذكر استنتاجه بأن ثقافة القوة هي التي ستنقذ ألمانيا وتقضي على الليبرالية والاشتراكية. ويمكن العودة بسهولة إلى الحملة الانتخابية لترامب وسياساته اللاحقة التي لم تعكس أي اهتمام بالعلوم والأبحاث العلمية مقابل تكريس سياسة شعبوية هوجاء تخدم هدف الوصل إلى السلطة.

ويبدو ترامب مثل  نيتشه كأيدلوجي للطبقة السائدة، يرفض رؤية قوانين الظواهر الاجتماعية الموضوعية، ويعارض فكرة المساواة الاجتماعية بأسطورة التفاوت الطبيعي الجبري بين الناس، «يتعين على الأرستقراطية الصحيحة أن تضحي دونما تأنيب ضمير بمجهود الكائنات البشرية، وتخضعها لمصلحتها، لتهبط بها إلى حالة من الإنسانية المسحوقة.. إلى عبيد وأدوات»، متوجهًا مباشرة إلى الصفوة «السادة الجدد»، ولذلك تخلو فلسفته من الديماغوجيا والرياء الاجتماعي المضاد والهادف إلى جذب الجماهير الشعبية والكتل، فهو يعلن احتقاره العلني لهذه الجماهير. وفي زعمه بوجود عرق السادة وعرق العبيد، يدعو لـ(تقييم القيم)، ويدعو الطبقات السائدة للتخلي عن أفكارها الليبرالية وتقاليدها الديمقراطية، وقيمها الأخلاقية واعتقاداتها الدينية، ومن كافة القيم السياسية والروحية التي تعترف بحقوق الكادحين، ويطالب بإعادة العبودية والتقسيم المراتبي للمجتمع وتنشئة فئة جديدة من السادة وتعزيز إرادة القوة عندهم ومن أجل ذلك يجب التخلي عن الأخلاق المسيحية « أخلاق العبيد» وسيطرة « أخلاق السادة» التي لا تعرف شفقة ولا رحمة وتتيح للقوي أن يفعل ما يشاء؛ و"القوي" يفعل ما يشاء، باستحواذه التام على مصادر المعرفة وقدرته على تفعيل هذه الأدوات لمصلحته الخاصة، وهنا يمكننا أن نفهم المسعى المشين الذي سعاه ترامب للاستحواذ على دراسات الشركة الألمانية التي تحاول الوصول إلى علاج للداء المميت، محاولًا احتكاره، ولا يرى فيه إنقاذًا للبشرية، بقدر ما يراه وسيلة لمزيد من تكديس رأس المال،  فترامب يرى في الوصول السريع إلى دواء كورونا وتحديدًا إبقاء هذا الدواء في يد نظامه، كفرصة لا تعوض لتجديد وترسيخ الهيمنة الأمريكية على العالم.

وهكذا نفهم أيضًا إنزال مزيد من العقوبات على إيران والصين في الوقت الذي يكافح فيه الناس للخلاص من وباءين سيفتك أحدهما بهم إن نجوا من الثاني، وهذا يتضح من الحديث عن خطر الجوع الذي يتهدد ملايين الناس من سياسة الإغلاق والحجز المنزلي، للوقاية من كورونا، ولكن الدول القوية الغنية الإمبريالية لاؤتلتفت إلى هذه الثنائية وتتجاهلها تمامًا، ممتنعة عن تقديم يد العون للشعوب الأضعف التي لا تكاد تجد قوت يومها، ناهيك عن القدرة على مقاومة المرض.

كورونا والرقابة في زمن نتنياهو

في سياق مرتبط، تبرز الإجراءات التي تتخذها الدول لمواجهة الكورونا، منفصلة عن بعدها الاجتماعي الضروري، وهي في شكلها وتجسدها المباشر يتم الإعلان عنها كوسيلة نهائية لمحاربة الفيروس دون أن ترتبط بضرورة التصدي للمشكلات الكارثية الأخرى المرتبطة بها، سواء ما ذكرناه أعلاه من وباء الجوع الذي يأتي موازيًا لوباء الكورونا متبادلًا معه الأدوار، أو ما يقال من إجراءات أمنية متشددة تهدد الاجتماع الإنساني في شكلها النهائي.

في هذا السياق نراقب اتجاه الحكومات في جميع أنحاء العالم إلى اتخاذ إجراءات صارمة للحد من انتشار الفيروس وانتهاز الفرصة لاعتماد سياسات كانت ستبدو مستحيلة أو غير محتملة للجمهور العام قبل شهر واحد فقط؛ فقد تم إغلاق المدارس والجامعات في جميع أنحاء العالم، ومن الصعب تمامًا تقدير قيمة الفقد العلمي والمعرفي نتيجة لهذه الإجراءات وفرضت دول أوروبية مثل إسبانيا وإيطاليا وفرنسا حظر التجول. هذا يبدو مفهوما، ولكن الكثير من الشكوك تثار حول عدد من الإجراءات، وبالذات تبني العديد من الحكومات استجابات تكنولوجية لمساعدتها في مكافحة الفيروس التاجي؛ فقد أعلنت وزارة الصحة الصهيونية، أنها بدأت استخدام تكنولوجيا المراقبة الجماعية لمراقبة حركة الأشخاص الذين تم التأكد من إصابتهم بـالفيروس 19 أو المشتبه في إصابتهم، حيث يقوم جهاز المخابرات الداخلي "الشاباك"، المعروف بتتبع الفلسطينيين لأغراض خدمة أهداف الاحتلال بتسيير البرنامج. والشاباك هذا منظمة أمنية متطرفة وعدوانية ولعل معرفة الصهيانة بأدوارها الإجرامية ضد الفلسطينيين، وهي أدوار أيدوها ودعموها وسكتوا عن أشد أشكالها تطرفًا، هو ما يجعلهم للمفارقة شديدوا القلق من هذا البرنامج، ليس في استخدامه الآني، ولكن بما سينتج عن هذه الإجراءات سرًا على الأغلب.

طبعًا ليس الكيان الصهيوني وحده الذي لجأ إلى حلول عالية التقنية للوباء العالمي، حيث تستخدم روسيا حاليًا تقنية الذكاء الاصطناعي لتحديد الأشخاص، الذين يعانون من ارتفاع درجات الحرارة أو الذين يخرقون حظر التجول، وينشرون معلومات مضللة على وسائل التواصل الاجتماعي، وحتى يفرغون الأرفف في محلات السوبر ماركت، وتستخدم الشرطة الإسبانية طائرات بدون طيار لرصد وتنفيذ حظر التجول، وشركات الاتصالات في النمسا ألمانيا تسلم بيانات الموقع الجغرافي مجهولة المصدر من الزبائن لحكوماتهم.

الإنذار الحقيقي الأول جاء من كوريا الجنوبية، حيث أثيرت مخاوف بشأن الخصوصية عندما تم الكشف عن تفاصيل الحياة الخاصة للأفرا،د من خلال رسائل نصية حكومية طارئة.

حتى الآن، من المعروف فقط أن الصين وإيرا ، والآن الكيان الصهيوني –حتى كتابة المقال-  تستخدم تقنيات المراقبة الإلكترونية على مستوى الدولة للتصدي للفيروسات التاجية

المثير للتناقض كما ذكرنا أن القلق في الكيان الصهيوني لا يأتي من استخدام الدولة لهذه الأدوات، بل من استخدامها تجاه اليهود، وليس الفلسطينيين الذي بقي أمر كشف وتدقيق حيواتهم أمرًا مفروغًا منه في السياق الصهيوني. وقد سبق للصحفي الصهيوني يوسي ميلمان، وآخرين في الحقيقة أن حذروا من أن بنيامين نتنياهو يريد من فرض إجراءات الرقابة الإلكترونية المشددة، ليس محاربة كورونا كما ينص الخطاب العلني، بل التحول إلى (أخ أكبر) مستبد، واستكمال الخطوات التي سبق أن اتخذها من أجل إدارة استبدادية يقف على رأسها.

وعبر نزع الشرعية عن المؤسسة القضائية في الكيان الصهيوني يعيد نتنياهو تعريف حالة الاستثناء؛ بأنها تلك التي يقررها "الملك" كما عبر عنها أفضل تعبير المنظر النازي كارل شميت، حيث لا تعود السلطة التنفيذية خاضعة للقانون، وهذا هو أساس الديكتاتورية، وهو أوضح تناقض حتى مع النظرة الليبرالية للعالم التي تكرس الفصل بين السلطات والضوابط والتوازنات.

وفي هذا السياق، حذر المفكر الصهيوني مايكل سفارد من أن آثار هذه الفلسفة القانونية على العالم - وليس فقط في الحالة القصوى للنظام النازي - الواضحة للجميع، حيث إن توطيد السلطة التشريعية والتنفيذية في يد فرع واحد من الحكومة دون أي رقابة فعالة، خاصة عندما لا تمثل هذه الحكومة الجمهور بأكمله، هو وصفة للانتهاك الجماعي للحقوق الفردية وإساءة استخدام السلطة، حيث تخلق حالة الطوارئ في أقصى حالاتها فرعًا تنفيذيًا بسلطة لا حدود لها.

وينبع القلق أيضًا في الكيان ارتباطًا بالتحليل أعلاه من المزيج في السياسة الصهيونية حاليًا، فليس هناك مزيج أكثر فتكًا من حكومة قومية مع ميول فاشية بقيادة بنيامين نتنياهو وحالة الطوارئ، حيث يتم استخدام حالة طوارئ حقيقية كحجر الأساس للتلاعب والانتهاك بالجملة للحقوق المدنية من قبل الحكومة؛ فحالة الطوارئ بالنسبة للحكومة فرصة لإفساد السلطة نفسها، وتعزيز المصالح الأجنبية، وملاحقة المنافسين السياسيين باستخدام الأدوات والأساليب التي لن تتمكن الحكومة من استخدامها في يوم عادي بسبب مقاومة شديدة من المعارضة، وتمنح حالة الطوارئ الحكومة الفرصة لاستغلال الخوف وعدم اليقين من الجمهور، الذي ينشغل بالتعامل مع القضايا الخاصة أو العائلية والتهديدات (الحقيقية أو المتخيلة)، وليس بعيدًا عن الأذهان كيف استخدمت الولايات المتحدة مثلًا قانون باتريوت والانتهاكات الواسعة النطاق لحقوق الإنسان التي ارتكبتها الحكومة الأمريكية بعد 11 سبتمبر.

تأتي هذه الإجراءات مع شلل الكنيست التام وفشله في الإقلاع بعمله، بعد سنة طويلة من فقدان اليقين والفوضى السياسية في الكيان، مترافقًا مع تضخم السلطة الهائلة للحكومة، حيث يتم التحذير من أنه يمكن لنتنياهو وحكومته الاستفادة من حالة الطوارئ بطرق لا يمكننا تخيلها بعد في الواقع، لقد بدأوا بالفعل في القيام بذلك بعد كل شيء. العالم كله يواجه اندلاع كورونا، فلماذا لا توجد خدمة سرية في أي بلد آخر تستخدم "التكنولوجيا الرقمية" كما يفعل الشاباك؟

طبعًا هذا التحذير من قتل الديمقراطية يتعلق باليهود فقط، إذ أن "إسرائيل" كانت على الدوام ديمقراطية مخصوصة، نوع من التوظيف اللا أخلاقي للقيم الديمقراطية لمصلحة المحتلين، وضد مصالح الملايين من الفلسطينيين تحت الاحتلال، هل يمكن إذًا القول؛ إن هذه المخاوف هي نقاش صهيوني داخلي؟! في الواقع إن حكومة الاحتلال لن تبقيه كذلك، وهي ستعمل على الاستفادة من هذه الخبرة، وهذا السلوك لمزيد من ضبط الفلسطينيين وقمعهم بما يخدم إدامة الاحتلال وتعميقه.

أخيرًا..

نتمنى أن ما نكتبه في زمن كورونا لن يجد طريقه للنشر، هي مجرد أمنية أنه حينما يحين الوقت سيكون الكابوس قد انتهى، ولن يكون هناك ضرورة للحديث مجددًا عن هذا العدو، ولكن للأسف، بمقدار ما هو عدو صعب المراس وفتاك وعدواني، فإن الأسئلة التي تطرح في زمنه لا يمكن تجاوزها، ومن البديهي أنه سيرافقنا حتى بعد التخلص منه لزمن طويل، بآثاره الاجتماعية والسياسية والصحية والأمنية، وكذلك بهواجس السؤال الأصلي: كيف حدث ذلك؟ وكيف يجب العمل على منع تكراره؟

لا أحد لديه أي أجوبة الآن وهذا بديهي، صدرت حول العالم، دراسات تنبؤية حول وضع الاقتصادات بعد كورونا وتغيّر نظريات العمل والحيازة، ومكانة العلم، والتبعات الأمنية وغيرها، ولكن لا أجوبة.