حسين أبو النمل.. ليس رثاء بل وداعا خاصا!

حجم الخط

انحدرت دمعة، انسابت على منحدرات القلب والوعي والمواقف والذكريات الشخصية الممتدة على مساحة عقود. مرّت على الحوارات واللقاءات الطويلة حتى مطلع الفجر وقالت: وداعا يا رفيق.
سارت الدمعة عبر الملامح القريبة من القلب، الشَّعر الأبيض، الابتسامة العفوية، حركة اليدين وهي تحوم في الفضاء وكأنها عصفور يطارد الحقيقة في الأفق.
هو حزن من نوع آخر هذا الصباح 22 أيار 2020، حزن الفقد الشخصي الخاص لرفيق عشته وأحببته طويلا.
مياه كثيرة جرت في أنهار علاقتي مع حسين أبو النمل فتجاوزت بعيدا العابر نحو المقيم.
لم يكن يأتي إلا دمشق إلا ويكون لنا لقاء، ولم أصل إلى بيروت دون أن أقيم عند حسين أبو النمل.
لست هنا لأرثي، بل لأعيد ما كان إلى بعض سيرته.
حسين أبو النمل الفلسطيني العربي الثائر، المثقف الكاتب، الباحث من طراز رفيع ومميز. أعطى التجربة الفلسطينية ركائز ثابتة في التقصي والبحث، سافر في حقل الاقتصاد الإسرائيلي حتى أصبح علما بارعا فيه، يستنطق الأرقام ويعيدها لسياقاتها، يذهب ما وراءها وما خلفها وبعدها. فأجبرنا أن نقرأ وندرك ندرك بصورة مختلفة أعمق وأشمل.
يقولون أنه كان مثقفا مشاكسا ومشاغبا ، متمردا وعنيدا، ولا ينضبط لإطار.
حسنا، حسنا... لقد كان كما تقولون. ولكن السؤال الأكثر أهمية هنا هو: كان مشاغبا ومشاكسا ومتمردا وعنيدا ضد ماذا وعلى ماذا!؟ هذا السؤال.
كل ما أعرفه أنه لم يغادر جبهة فلسطين يوما. لهذا كان من الطبيعي أن يتمرد ويتجاوز ويشاكس ويناقض كل من كان يمس ثوابت فلسطينيه، سواء كان تنظيما أم قائدا أم موقفا، حينها كان يهاجم بقسوة وشجاعة وعلنا. لا يهمه منصب أو مرتبة أو امتياز. أن يكون حسين غير ذلك هو غير الطبيعي.
فما جدوى أن تكسب رضى أحد أو تنظيم أو موقع إذا خسرت فلسطين!؟ ماذا سيعني اللقب التنظيمي، مهما علا، إذا لم يكن من أجل حراسة فكرة فلسطين، إذا لم يمتلك شرط السير خطوة نحوها، لأي شئ نريده غير ذلك يا ترى؟.
لهذا حين نلقي نظرة على تاريخ حسين أبو النمل الممتد، منذ كان عضوا في حركة القوميين العرب، ثم في الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين وحتى رحيله، نجد أنه وبالسهولة التي كان يفرض فيها حضوره ويصعد في كل المستويات التنظيمية، كان بذات السهولة مستعدا للنزول إلى البداية حين يجد ذاته أمام موقف أو إطار أو مكانة تتناقض مع فلسطينه الأزلية.
هو حسين أبو النمل هكذا: واضح وحاسم، غاضب وعنيد، شديد البأس في الكتابة والنقاش، هو ذاته الذي كان يحمل البدندقية حين يجد الجد بذات البساطة التي كان يراقص فيها كتبه وأبحاثة المدهشة في الاقتصاد والسياسة والاعلام ويدافع عن حق فلسطين في الوجود والحياة.
أذكر جيدا النقاشات الحامية والشرسة التي كانت تدور بيننا. لم يكن يهدأ ولا يستسلم ولا يناور أو يراوغ، حين يتعلق الأمر بفلسطين وقضيتها. كان يقاتل حد التعب.
كنت أذهب إليه أو يأتي، أخوض في فكرة وأنا أعتقد أنها حقيقة مطلقة، وبعد جولات وجولات، وحين يحاصرني حسين بالأرقام والحقائق كنت أخرج من النقاش ليس كما بدأت. لقد كان يعلِّمني.
لا بديهيات إلا ما يثبت ذاته من كل الجوانب، كان يؤمن أن اللغة المائعة والعامة والبائسة والهابطة أو التبريرية لا مكان لها في صراع ضار يجري على مساحة التاريخ والجغرافيا والعقل والأرض والسماء.
يقرأ ويبحث ويدقق ويتابع بجلد هائل. جزء كامل من مكتبته تصطف عليها مجلدات "مركز الأحصاء الإسرائيلي السنوية". لم يكن يبني مواقفه على قاعدة سمعت، بل كان يذهب للأصل ويستجوب كل التفاصيل ثم يكتب.
كم كان يضحك عندما يقرأ مقالا أو يسمع خطابا من قائد فلسطيني يقول فيه: "إن الاقتصاد الإسرائيلي على حافة الانهيار لأن معدل البطالة أو التضخم قد ارتفع بنسبة كذا هذا الشهر".
كان حينها يعلق بغضب وشتيمة: إذا كانت إسرائيل تفعل بنا كل هذا واقتصادها على حافة الانهيار، فكيف لو لم يكن كذلك؟. ثم يضيف: على حافة الانهيار!!! ودخلها القومي يعادل دخل عدة دول عربية كبرى معا. كيف يقولون هذا، ألا يقرأون!؟.
أو حين يقول البعض "إن إسرائيل نمر من ورق" . كان يضيف: نعم إنها نمر من ورق ولكن بأنياب نووية!.
كان أكثر ما يستفزه الرضى عن النفس والنقد السطحي العام واللغة التي لا تقول شيئا، أو تلك التي تبدو منطقية لكنها تعبر عن سذاجة وجهل كبير. "إن أخطر ما يواجهنا هو حين يلتقي الجهل مع سوء النية"، هذا ما كان يعلنه في مثل هذه الحالة، دون مجاملة أو التباس أو ارتباك..
ومن بين ما كان يثير غضبه بصورة عنيفة: فكرة "الأمساك بالحلقة المركزية القوية" التي استوطنت الخطاب الفلسطيني طويلا، كان يعلق: كيف يقولون هذا؟ ماذا ستفعل الحلقة القوية في سلسلة متهالكة!؟. ألا يرون أن إسرائيل تجابهنا بسلسلة فولاذية شاملة: اقتصاد، نظام سياسي، نظام اجتماعي، نظام تعليم، علم وبحث علمي، قانون، جيش، وجبهة علاقات دولية شرسة.
وعن قوى اليسار الفلسطيني الذي أفنى عمره فيه، كان يرى الأخطاء ونقاط ضعف هذا اليسار . لم يكن يجامل أو ينمق أو يدور الزوايا.
كتب يقول: إن أخطر مظاهر أزمة قوى اليسار الاعتقاد أن ليس هناك أزمة. اليسار ضرورة اجتماعية وسياسية وثقافية، إنه دور موضوعي طبيعي بحكم الواقع الطبقي، لكنه دور لا يزال يبحث عن بطل يؤديه كما يجب.
يوم قررت الالتحاق بالجامعة اللبنانية في بداية تسعينيات القرن الماضي، ذهبت إلى بيروت وقلت سأستشير حسين في نوع الدراسة، التقيته فأعد الشاي "الحقير" يقصد الثقيل على حد تعبيره، قلت له ما رأيك، أريد أن أدرس وأنا حائر ما بين فرع العلوم السياسية وعلم الاجتماع.
صمت قليلا ثم قال: سيبك من العلوم السياسية طول عمرك في السياسة، هل تريد قيمة مضافة جديدة؟ أدرس علم اجتماع.
وهذا ما كان... وكنت قبل الامتحانات في كل فصل أذهب وأقيم عند حسين.
مرة وعلى شرف كأس الشاي الحقير قلت له: بتعرف يا دكتور.. اكتشفت إني حمار!.
ابتسم ونظر بتساؤل.. ليش وكيف؟.
قلت: لقد علمونا طوال سنوات في العمل السياسي كما تعرف (باعتبارنا ماركسيين) أن ماكس فيبر برجوازي انتهازي، ومالتوس مجنون، بحيث لو التقيت بأحدهم في الشارع يا أنا يا هو كبرجوازي. لأكتشف أن ماكس فيبر من أهم منظري علم الاجتماع ومالتوس مؤسس علم السكان.
ضحك حسين. وعليه كان كلما التقينا يذكرني: فعلا إنك حمار.
هذا هو بعض عفوي من حسين أبو النمل، حسين الذي أعتبره من أجمل وأهم شخصيات فلسطين العلمية والفكرية، ومن أهم ما أعطت الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين للتجربة الفلسطينية.
حسين أبو النمل الفلسطيني البدوي اللاجئ الذي لم يغادر خط الواجب، كان يتحرك في التجربة دون أن يحيد عن البوصلة، لم تكن حدته ومرونته وقدرته وشجاعته وغضبه يعجب الكثيرين، ذلك لأنه كان قوة صادمة وكاشفة. وحسين كأي إنسان خاض التجربة الفلسطينية بعمره وعقله بكل متطلباتها وتحدياتها وأثقالها، كان بالتأكيد له ما له وعليه ما عليه. لكنه يبقى قائدا ومفكرا ومثقفا ومناضلا يليق بفلسطين وتليق به.
كلمة أخيرة أكثر من ضرورية: عزائي لزوجته الرائعة "درية" التي لازمته العمر وكانت خفيفة الظل والروح كما هي أي مصرية عالية الروح والقلب والوفاء. السيدة الذكية اللبقة والإنسانة حتى النهاية.
وأيضا عزائي الخاص للدكتور عامر السماك Amer Sammak. صديق جلساتنا وحوارتنا المشتركة، صاحب نظرية "الخلية الناقصة"، التي أبدعها ذات مساء بعيد في جلسة جمعتنا في بيروت في بيت د. حسين نحن الأربعة : د. حسين أبو النمل، د. عامر السماك، إبريق الشاي "الحقير" وأنا.
وداعا يا حسين وأنت ترحل بصمت الكبرياء والانتماء والوفاء كما عشت تماما.
***
• أتمنى أن يتم حصر الإرث العلمي والبحثي للدكتور حسين أبو النمل ويصدر كأعمال كاملة، ويجري تعميمه.
• ولد د. حسين أبو النمل في فلسطين في عام 1943 – "عرب الهيب" شمال فلسطين - وحينما وقعت النكبة عام 1948 التجأت عائلته إلى جنوب لبنان، حيث تلقى تعليمه فيها وأكمل دراسته الجامعية في كلية الاقتصاد – جامعة القاهرة، ثم حاز على درجة الدكتوارة في تخصص الاقتصاد من ألمانيا.
- التحق بصفوف حركة القوميين العرب أوائل الستينيات من القرن الماضي، وبالجبهة الشعبية لتحرير فلسطين منذ تأسيسها، وقد شغل مهمات ومواقع قيادية عديدة في دوائر وفروع الجبهة، وصولاً إلى إشغاله عضوية اللجنة المركزية العامة أوائل التسعينيات، وعضوية المكتب السياسي للجبهة في المؤتمر الوطني السادس تموز 2000.
- شغل عضوية الهيئة التنفيذية للإتحاد العام لطلبة فلسطين عند عقد المؤتمر الخامس للاتحاد عام 1969، واستمر حتى انعقاد المؤتمر السادس عام 1971.وشغل قبل ذلك عضوية الهيئة الإدارية لفرع القاهرة في شباط 1967.
- عضو فاعل في مركز الأبحاث الفلسطيني، ومدير تحرير سابق لمجلة "الهدف" في بيروت، وعضو مشارك في العديد من المؤسسات البحثية، ومؤتمرات ذات اختصاص.
- عضو اتحاد الكتاب الفلسطينيين.
- له عدة كتب، من بينها: بحوث في الاقتصاد الإسرائيلي - قطاع غزة 1948-1967: تطورات اقتصادية وسياسية واجتماعية - الضفة الغربية وقطاع غزة: تطورات اقتصادية وسكانية واجتماعية - الصناعة الإسرائيلية، الاقتصاد الإسرائيلي: من الاستيطان الزراعي إلى اقتصاد المعرفة. كما نشر العديد من الدراسات القصيرة والمقالات في دوريات متخصصة.