ثلاثة وخمسون عاماً على النكسة

حجم الخط

الفلسطينيون والعرب، هم المسؤولون وحدهم، وهم من يملكون القدرة على إعادة الاعتبار للقضية الفلسطينية، ووضعها مجدداً في الواجهة.

مرت هذه الأيام الذكرى الثالثة والخمسون لنكسة الخامس من يونيو/حزيران 1967م. وبخلاف الأعوام التي أعقبت النكسة، مرت الذكرى في هذا العام، مرور الكرام، حيث القلة القليلة من الكتاب ووسائل الأعلام، من أعاد التذكير بها. إن ذلك يعكس، من دون شك، انشغال المواطن العربي، بقضايا أخرى، يجدها أكثر إلحاحاً، وضغطاً، لعل أهمها الوضع الاستثنائي الذي يعيشه الوطن العربي، والعالم بأسره، بسبب تفشي وباء «كرونا»، وأيضاً بسبب الضغوط السياسية والاقتصادية، وانتشار الأوبئة الطائفية، والاجتماعية، وتراجع المشروع القومي العربي.

نكسة الخامس من يونيو/ حزيرا، ليست محطة عابرة في التاريخ العربي، وتداعياتها لا تزال ماثلة أمامنا حتى هذه اللحظة. فأراضي الضفة الغربية، وقطاع غزة، و القدس الشرقية، ومرتفعات الجولان السورية، ومزارع شبعا اللبنانية، لا تزال تحت سيطرة الاحتلال «الإسرائيلي» منذ عام 1967م. وما يطلق عليه بالمجتمع الدولي الذي كان نشطاً في مرحلة ما، لإيجاد تسوية للصراع العربي- الصهيوني، لم يعد مكترثاً لإيجاد أية تسوية، تلبي الحدود الدنيا من الحقوق العربية، بل بات متواطئاً مع الاحتلال، وداعما لمشاريعه. لكن هذه اللحظة من التاريخ ليست نهاية المطاف. والفلسطينيون والعرب، هم المسؤولون وحدهم، وهم من يملكون القدرة على إعادة الاعتبار للقضية الفلسطينية، ووضعها مجدداً في الواجهة من الأحداث الجارية في العالم.

بعد خروج المقاومة الفلسطينية من بيروت، وتشرذمها في عدد من الأقطار العربية، ساد تصور لدى الكثيرين، ومن ضمنهم القوى الكبرى، أن قضية فلسطين لم تعد في سلّم الأولويات من اهتمام العرب، ودول العالم. وحين التقى سكرتير الحزب الشيوعي، جورباتشوف، مع الرئيس الأمريكي ريجان، لم تتعرض مباحثاتهما لما بات معروفاً بأزمة الشرق الأوسط. وحتى مؤتمر القمة العربي الذي عقد في العاصمة الأردنية عمان، في نوفمبر/ تشرين الثاني 1987م، انشغل بالحرب العراقية- الإيرانية، المشتعلة آنذاك، ولم يجد متسعاً لمناقشة قضية الاحتلال «الإسرائيلي» للأرض العربية.

وحدها انتفاضة أطفال الحجارة، التي اندلعت في بداية ديسمبر/ كانون الأول عام 1987م، وانطلقت من قطاع غزة، لتنتشر كالهشيم إلى مدن وبلدات الضفة الغربية، ووصلت إلى الأراضي التي احتلها الصهاينة عام 1948، تكفلت بإعادة الحياة للقضية الفلسطينية، وباتت أخبار انتفاضة الحجارة تتصدر وكالات الأنباء العالمية، والصحف العربية، لتعطي للقضية الفلسطينية زخماً جديداً.

لكن مناورات منظمة التحرير، وخشيثها من توقف الانتفاضة، من دون تمكنها من استثمارها سياسياً، أسهم في لجم ذلك الزخم الذي أذهل العالم بأسره. فكان بيان الاستقلال الذي صدر في اجتماع المجلس الوطني الفلسطيني، بمدينة الجزائر، ليعقبه خطاب عرفات، في مقر الأمم المتحدة بجنيف، معلنا فيه التخلي عن المقاومة، واعترافه من دون مقابل يستحق الذكر، بقيام دولتين على أرض فلسطين التاريخية. دولة الاحتلال، ودولة فلسطينية في الضفة والقطاع، تكون مدينة القدس عاصمتها.

ما نهدف له من هذه المقدمة، هو التأكيد على أن القضية الفلسطينية مرت بدورات نضالية متعددة، وأنها خبت في لحظات التراجع والعجز العربي، واستعادت قوتها بالكفاح الفلسطيني، وعودة الروح للأمة. وحق الشعب الفلسطيني، في أرضه، وفي الاستقلال والحرية، لن يسقط بالتقادم.

الخامس من يونيو/ حزيران، محطة في التاريخ العربي، ليس لأن العرب، خسروا الحرب، في مواجهة عدو أكثر تنظيماً، وتسلحاً، وتدريباً، وقدرة على المناورة. فهناك أمم كثيرة خسرت حروباً عدة، ولم تتخل عن هوياتها، وانتماءاتها، ومشاريعها الحضارية. وفي هذا السياق، نشير إلى الحربين العالميتين، وإلى الدول الأوروبية التي تناحرت مع بعضها بعضاً، وفي تلك الحربين هزمت ألمانيا. وفي الحرب العالمية الثانية، جرى احتلال فرنسا، وضربت مدينة لندن بالقذائف، بشكل يومي، وعند نهاية الحرب، جرى احتلال إيطاليا، وألمانيا.

ولم تكن الحرب سوى محطة عابرة في تاريخ هذه الأمم. لقد استعادت تلك الأمم عافيتها، ومارست دورها مجدداً في البناء، والتنمية، ولم تتخل عن عقائدها، وبرامجها السياسية. لقد استمرت دولة العقد الاجتماعي قائمة كما كانت قبل الحرب. ولم يقل أحد إن سبب الهزيمة هو التمسك بالفكر السياسي الذي ساد قبل الحرب قرابة قرنين من الزمن.

نكسة الخامس من يونيو/ حزيران، لم يتسبب بها، كما يشاع، الفكر النهضوي العربي، ولا مشاريعه، بل كانت نتاجاً لبنيات وهياكل اجتماعية هشة، وانعكاساً للعجز العربي، عن الخروج من نفق التبعية، وعدم القدرة على تحريك المياه الراكدة، وتجاوز شبكة العلاقات البطركية القديمة، وإسقاطاتها على التكوين السياسي العربي المعاصر. وتلك كانت من أسباب ردة الفعل العاجزة على النكسة، ولا تزال هي ذاتها، معضلتنا الكبرى.