إن الشهداء لا يمرون في صفحات تاريخنا إلا حروفاً وكلمات معمدة بالدم

حجم الخط
أحمد سعدات ( *) إن الشهداء لا يمرون في صفحات تاريخنا إلا حروفاً وكلمات معمدة بالدم وسطوراً نسجت من أشلائهم الممزقة . فالعقل القيادي الفلسطيني، وأنا واحد منهم ينبغي أن يستلهم عند كل موقف و منعطف، بمأثرة الشهداء الأبرار، وان يزداد صلابة وتمسكاً بالقضية والموقف، و كلما ساور أحدنا الوهن أو الشك فثمة في مواقفهم ما يغني وينير لنا الطريق و يقودنا للنصر المحتم. لماذا اخترت ما سبق من كلمات للحديث عن رفيقي رائد نزال ، لقد اخترت هذه الكلمات لان هناك حاجة ماسة ولدتها حاجات المرحلة، خاصة بعد الهجمة العدوانية لرعاة البقر الأمريكية وأتباعهم البريطانيين على المنطقة عبر بوابة العراق، لتسوق ثقافة الهزيمة وتعرضها بالقوة، وتساعد العديد من مروجي هذه الثقافة تحت عبارات رنانة باسم الواقعية والحكمة والانحناء للعاصفة، و غيرها عبارات الفتها وعافتها آذاننا، فكان لا بد من التذكير بشرح عبارات نبيلة من فنان وأديب ومناضل مبدع وشهيد حتى لا يتطاول عليها أحد المدعين من أنصار واقعية الهزيمة. انظروا إلى حياة رفيقي الشهيد القائد رائد نزال ففيها تجدون الجواب، حيث نجد انسجام النظرية مع الممارسة في بوتقة "القضية و الموقف" !! كان نموذج وطراز الشهيد القائد الميداني رائد نزال "أبو أسير" سهلاً ويسيراً ولا يحتاج لوصفه أو سبر غوره مقدمات معقدة فلسفية أو أدبية، تألفه وتصادقه بيسر خلال اقل من دقيقة معه، بعد أن يغادرك تحتاج بل تشتاق للقائه، ففي طفولته معالم رجولة صارمة، و في رجولته ملامح طفولية تكثف البراءة والنقاء والشفافية، ولا أبالغ حين أقول حتى أن فظاظته تصدر عن عفوية محببة للنفس ولا تثير الغضب، فطيفه وهمس صوته ودبيب مشيته، و رنة ضحكته أو غضبه المكبوت تترك أثراً، فهو باختصار يطرح في سلوكه إنسانيته وغناها دون تكليف. وإذا كانت السجايا الإنسانية لرفيقنا وصديقنا وحبيبنا رائد بهذا اليسر والبساطة تقرأها وتحفظها عن ظهر قلب في دقائق بل ثوان، فان ملامح شخصيته النضالية أكثر يسراً وأسهل استيعابا، عرفته شبلاً في إطار مجموعة من الرفاق من أبناء جيله،أقول إنهم كانوا توائم في السلوك والاندفاع والانتماء والشجاعة والاستعدادات والقابليات للنمو والتطور، لكنه إنصافاً للحقيقة كان الأكثر تميزا في ثباته واستمراره، و بين لقائي الأول برائد الشبل المبتدئ في النضال وانتهال العلم الثوري ، ولقائي الثاني به بعد أن تحرر من الأسر كادراً معبأً ومثقفاً متكلماً وخطيبا بل متطاولاُ بعبارات مصقولة وعميقة، كان عمره ما يقارب الأربعة عشرة سنة، ولم أفاجأ حين وجد هو نفسه الشبل الذي غدت ثقافته مصقولة هو نفسه الذي رأيته قبل هذه المدة أول مرة في اندفاعه وحماسة ودعابته واستعداداته، و أكاد أقول أن عمره ما زال ستة عشر عاماً وليس ثلاثون، فهو لم يصدأ ولم يهرم ولم يمرض وبقي شامخاً شاباً يتدفق حيوية واستعداداً للعطاء، وانخرط في مهامه بسرعة بعد أن أنهى واجباته نحو أسر رفاقه الأسرى الذين يحمل همومهم ويسعى لتسديد فاتورة الواجب الذي تعهده لهم أثناء وداعه لهم، وكان خير من حمل الواجب وفتح ذراعيه لمهام النضال في الحزب مستعداً لها من ابسطها إلى أكثرها تعقيداً، و جاءت الانتفاضة المجيدة لتفتح له آفاقاً رحبة ولتفجر إمكاناته وثورته للنضال والقتال، فكان مقداماً ورجلاً فولاذياً، لم تنحن ركبتاه، وظل رأسه مرفوعاً إلى الأعلى ،وعيناه مصوبتين نحو الشمس المشرقة على أسوار القدس، فاستشهد قابضاً على جمرات العقيدة والموقف والمبدأ بيد، وعلى زناد الرشاش باليد الأخرى . هذا هو رائد يؤكد للأعداء و للأصدقاء، للمثقفين والبسطاء، انه ليس عملاقاً خارقاً غير عادي، بل إنسان، وان الإنسان حين يطارد ذاته فلديه من الإمكانات التي إذا تحررت تحوله ألي عملاق، فماذا نقول عن الشعب الذي يعبر عن اتحاد الأفراد والمجموعات الإنسانية عضوية اجتماعية متميزة؟؟ و أخيراً وقبل أن انهي كلمات هذه المقدمة، وانحني أمام هامة هذا الجندي القائد المقدام والشجاع، وحتى أكمل دائرة الحقيقة أقول: ما كان لرائد أن يمتلك هذه العظمة ويستحق هذا التقدير لو لم ينشأ في كنف أسرة ومجتمع ساعد في تكوين شخصيته، واكتسب منها عناصرها ومقوماتها، فقد ولد لأم تتدفق إنسانية، وأب صارم في قسماته صلب شفاف ولطيف في معاملته، تحدثه فتشعر بالدفء والراحة ومشاعر الحب الموشحة بالهيبة والاحترام، و أخوات جميعهن بين الصلابة وغنى المشاعر الإنسانية والانتماء العالي للواجب، وفي المجتمع العائلي الذي تخطى الأسرة سمات تتقاطع مع سمات أسرته، وأخيراً زوجته فاطمة الصلبة الذكية الإنسانة التي شاطرته الحياة وودعته وهي تبتسم وتعتصر الألم، على الرغم من أن زواجهما لم يتعد السنة أو يزيد عنها بقليل. لهذه الأسرة التي تشرفت بصداقتها… لأسير الذي يحمل في ذاته كل مقدمات سجايا والده القائد الشهيد.. أقول : ذهب أبوك عنا بجسده لكنه ظل حاضراً بمواقفه مضافاً إليه أسير ------------------ • الأمين العام للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين القائد الوطني أحمد سعدات * مقالة تأبينية عقب استشهاد القائد رائد نزال 28-4-2002