أبو علي مُصطفى في سجن الجلمة.

حجم الخط

بقلم  دعاء الجيوسي. نقلاً عن مركز حنظلة للأسرى والمحررين


لرجل بقامة أبو علي مصطفى بصمة في كل ساحات النضال... من سألته عنه سيسرد ألاف المواقف عن الرجل في عرابة والأردن...في معتقل الجَفر الصحراوي...في القواعد العسكرية وحيثما حَل...وكلها ساحات نضال تبرز فيها معادن البشر وشفافية أرواحهم بلا شك...ولكن ساحة النضال الأشد ضراوة هي السجون وأنا سأحدثكم عن معرفتي ولقائي وتجربتي مع أبا علي داخل سجون الاحتلال.

ليلة السادس من حزيران عام ألفين وإثنين إعتقلتني قوات الاحتلال من بيت عائلتي في طولكرم ومن هناك وبعد رحلة تنكيل قاسية إقتادوني إلى معتقل الجلمة حتى هذه اللحظة كانت معرفتي بأبي علي لا تتعدى معرفة أي عضو في الجبهة الشعبية به وإن كان لمعرفتي بعض الخصوصية فأنا مُقاتلة في جهاز كفاحي يحمل إسمه.
صبيحة اليوم التالي وصلت إلى مركز تحقيق الجلمة وما يدور في ذهني أني فدائية يجب ألا تضعف كُنت مُصممة أن أُريَ المحققين بأساً وجلداً يليق بفدائية كنعانية...وكانوا هم مصممون أن يظهروا كل علوم النازية على روحي وجسدي...

في الثالث عشر من حزيران كنت مشبوحة إلى جدار زنزانة بدأ الخدر يضرب ساعدي وألام الظهر تشتد...باتت أصابع يدي زرقاء مُسودة...لا نوم ولا طعام...ومن حائط الشبح هذا نقلوني إلى مقعد صغير وعليه أيضاً شُبحت ويداي للخلف...كنت مُستيقظة تماماً جسدي مرهق ولكن حواسي مُتحفزة كنت أتحدث في سري مع أسامة بُشكار..وأبتسم طويلاً عندما أذكر حديثه الأخير على باب سوق أم خالد (نتانيا) كان صوت انفجار السوق يتسلل إلى أذني كأجمل ما سمعت من مقطوعات موسيقية في حياتي....وبعد حديث وتجديد للعهد مع أسامة أخذتني إغفاءة لا أدري ربما لبى جسدي حاجته للنوم أو قد تكون إغماءة إنتابتني بفعل ما لاقيت على مدار إسبوع كامل....المهم أنني و أثناء إغفائتي سمعت صرير باب الزنزانة الثقيل رأيت نوراً يشع في قلبي وزوايا زنزانتي...زالت من أنفي رائحة الرطوبة...شممت عبير برتقال يافا وغسل رذاذ البحر وجهي فاستفقت منتعشة...كان رجل بشارب كث يقف في أقصى الغرفة على كتفه مارتينة قديمة.. يرتدي زياً قروياً كالذي يرتديه شيوخ عائلتي في قرية كور إبتسم وأخرج من جيبه منديلاً مسح وجنتي وقال لي قومي....دعاء أتعلمين منديل من هذا...هذا منديل حاكته لاجئة في مخيم صبرا وهربته عبر شاتيلا إلى يد جورج حبش ومن عنده وصل إليَ خذيه يا أبتِ كلما أوغل القيد في يديك أو داهمك التعب إمسحي جراحك به...إعذريني يا أبت ليس لدي طعام أقدمه لك ولم يبقى ماء في قربتي العسكرية...لدي قلبي وما تبقى من لحم كتفيَ هلا أخذتيه...تبسمت وسألت الرجل ولكن من أنت تناديني بإسمي تهبني منديلاً وتعرض علي قلبك ولحم أكتافك طعاماً وتدمع عيناك كلما وقعت على أصابعي المتورمة...صمت الرجل طويلاً إحمر وجهه خجلاً وقال ألا تعرفين...تحملين إسمي إلى قلاع الفاشيست...تهدمينها على رؤوسهم وتؤكدي أن هذا جزء من ثأري أنا وأبنائي المذبوحون من كفر قاسم إلى غزة ولا تعرفين إسمي ولا شكلي...أتتذاكين عليَ يا دعاء أم أن هذه من أصول العمل السري التي تعلمتموها في غيبتي...وقتي ضيق سأخرج قبل أن يأتي الفاشيست...أنا المٌقاتل مصطفى على الزبري أنا أبا علي يا دعاء....
بدا الصوت مـألوفاً ولكن الوجه ليس كذلك فوجه أبا علي أعرفه جيداً....قلتُ أيا عم صوتك كصوت أبا علي ولكن وجهك ليس كذلك...نورانية الأرض كلها.... نصف جمال الدنيا وكل هيبتها...عطر سماوي أأنت أبا علي حقاً.... قال يا أـبتِ ألا تعلمين أننا عندما نصعد شهداء نغتسل بدمنا وبه نتزين فنبدو كما ترين...إنها جمالية الشهادة , عموماً أنا سأخرج بالطريقة التي أتيت بها...عندما تشعرين أنك بحاجتي سوف آتي...أنا الآن ذاهب إلى سجن عسقلان فقد قالوا لي أن هناك من هم بحاجتي سوف أزورهم ومن ثم أغادر....غادر أبا علي وعدت لقيدي وجدار الشبح...وظللت معه على عهد يزورني في الدامون والشارون و الرملة زارني في طولكرم وغزة...وكان أخر لقاءاتنا يوم إشتدت عليَ آلام الغضاريف..أتى للبيت بأدب جم استأذن بالدخول أجلس أطفالي على ركبتيه وقال لهم أتعلمون يا جدي من قتلني...ومن صنع بأمكم كل هذا قالوا من...قال إنه الوحش.. العدو القابع على قلوبنا...تزودوا بحب الأرض سآتيكم قريباً أطمئن على أٌمكم وأدلكم كيف تقاتلونه عندما تشتد سواعدكم...خرج أبا علي ولا زال طِفلي علي ومحمد يسألان عن جدهما الثالث الذي وعدهما ببنادق وبزات عسكرية ورحلة قتال يكون لهم فيها نصيب...فلا تتأخر يا أبتِ إننا في الإنتظار.