التطبيع: هو الانحطاط إذن؟

حجم الخط

الفوضى التي تصيب كل شيء، من أبسط الأشياء إلى أكثرها أهمية، لدرجة الشعور بالضياع، حيث تفقد الكلمات معانيها، وتفقد المفاهيم مدلولاتها ومضامينها، ولا رابط بين المسميات وأسماءها. كيف نفهم الحق؟ ومن هو العدو؟ وكيف يكون الانتماء؟ وماذا يعني السلام؟ كل هذه المفاهيم وغيرها، تكتسب مدلولاتها من مفهوم أصل، من نحن؟ كيف نرى أنفسنا؟ وكيف نقارب مصالحنا وأمننا؟ كيف ننظر لتاريخنا؟ وما هو المستقبل الذي نريده لأجيالنا اللاحقة؟ عندما يصل الأمر إلى هذا الحد، يصير للخطر هذا المعنى الوجودي.

تأخذ مسألة إبرام اتفاقيات التسوية بين الدول العربية والكيان الصهيوني من كامب ديفيد إلى أوسلو ووادي عربة وصولًا إلى اتفاقية "ابراهام"، أهمية كبيرة في استراتيجية الكيان، فضلًا عن اهتمام العالم أجمع، باعتبارها إعلان نهاية للصراع والعداوة بين طرفين، ويسعى العدو إلى التطبيع، بمعنى عودة العلاقات بين الشعبين إلى وضعها الطبيعي. هكذا يكون الحال بين دولتين وشعبين طبيعيين، كانت علاقاتهما فضلًا عن وجودهما ذاته بالأصل طبيعيًا، ولم يكن وجود كل طرف مشروعًا نقيضًا للأخر. مشروع استنهاض أمة واستعادة دورها وحضورها الحضاري والسياسي عربيًا، ومشروع استعماري يستهدف تقويض المشروع الأول والاحلال محله.

استند النضال القومي العربي بمشاربه الأصيلة، لا سيما حركة القوميين العرب، وحزب البعث العربي، والحزب القومي السوري كما التجربة الناصرية، وأبرز مفكري مرحلة التأسيس الحركي القومي، من قسطنطين زريق إلى ميشيل عفلق، وأنطون سعادة وجمال عبد الناصر، إلى أن زرع الكيان الصهيوني في فلسطين، هو بالأساس مشروع استعماري نقيض للمشروع القومي العربي، وأن قيام الدولة الصهيونية هي ضربة استباقية لمنع قيام كيان عربي، وكلما تجذر المشروع الصهيوني وتكرس حقيقة قائمة على الأرض، يعني تفككًا وتشرذمًا واندحارًا للمشروع القومي العربي، وبالتالي فإن إقامة الكيان الصهيوني ليس مجرد احتلال، بل هو إحلال تاريخي كامل المواصفات؛ عملية سطو منظمة على الزمان والمكان. ويتضح هنا مفهوم العدو بالمعنى العميق للتهديد الوجودي، والتهديد ليس بالضرورة أن يكون فعل اعتداء مباشر وحسب، بل ممارسة مضمرة وغير محسوسة أو ملموسة؛ إذ يكون التهديد خطيرًا ووجوديًا، لمجرد عدم النظر لهذا "الآخر" الصهيوني على إنه عدو ويشكل تهديدًا.

لذلك وبهذا المعنى يصير التطبيع تهديدًا، لأنه إشاعة وهم نهاية العداوة بين الطرفين، "العربي والصهيوني"، بينما هو في الحقيقة تطورًا في مفاعيل التهديد وجوديًا، واستمرارًا في الاعتداء والأذى، ولكن بأشكال أخرى، كما أن السلام ليس نهاية الحرب، بل هو الاقتراب غير المباشر، والانزال خلف الخطوط الأمامية، بهدف التقويض من الداخل للمنظومة الدفاعية القائمة من بنيان مفاهيمي، ويتأسس عليها الوجود الإنساني بكل أشكاله وأبعاده، وحتى بشكله البسيط الفطري.    

لذلك، من الابتذال والتسطيح اعتبار عملية التطبيع العربي المتسارعة اليوم، مجرد تجاوزًا سياسيًا كما يقال للمبادرة العربية المطروحة منذ قمة بيروت ٢٠٠٢، أو هي طعنة للفلسطيني على خلفية الحرد السياسي الذي تمارسه القيادة الفلسطينية المتمسكة بأوسلو، إزاء صفقة القرن وترجماتها التي بدأت مع الإعلان الأمريكي القدس عاصمة للكيان، وآخرها موضوع الضم أجزاء واسعة من الضفة والأغوار.

 ينبغي أن يُنظر للتطبيع باعتباره تقويض لما تبقى من عروبة وعرب، ولا نقصد بذلك مشروع عروبي يسعى لتأسيس الكيانية القومية العربية، فذلك لم يعد له وجود، أو حتى ساعين جديين لتحقيقه، بل إن التطبيع هو محاولة للقضاء التام والمبرم على الإحساس الفطري للعربي بالذات، باعتباره عربيًا، وما يبنى على ذلك من امتعاض مشفوع بالعجز لعربي ما، حين تقع كارثة طبيعية، أو فعل اعتداء متعمد بعربي آخر، وما قد يتبع ذلك من فتات تضامن خجول بين الدول المسماة بالعربية، وما يعنيه ذلك من معنى لماهية المصالح العربية والأمن العربي والمشاعر العربية المفترضة.

عندما وقعت مصر على اتفاقية كامب ديفيد، قيل الكثير عن استهداف الحضور والدور المصري كرافعة للمشروع القومي العربي، إلا أن خسارة العروبة لمصر، هو وبنفس القدر خسارة مصر لنفسها ومصالح شعبها، خسارة مباشرة محسوسة وملموسة بفقدانها أمنها الوطني بكل أبعاده، وصولًا إلى أسس البقاء الذي لا يمكن أن يكون إلا عربيًا.

اليوم يلمس المصريون حجم التهديد الذي يتعرض له الشعب المصري، ليس بسبب الحرب في ليبيا التي انتعشت قبليتها وأخذها الهوى الإخواني الأردوغاني، أو بسبب سد النهضة في أثيوبيا الذي يهدد المصريون بالعطش، أو الخلافات مع السودان الذي صار سودانين، والحبل على الجرار، أو الحضور والدور التركي في شرق المتوسط، كل هذه القضايا وغيرها ما كانت لتكون لولا الاختلال في فكرة الانتماء العروبي وما يبنى عليها من تحديد لمعنى الأمن القومي وحدوده، من أين يبدأ وأين ينتهي، وهو حكمًا ليس في الجفرة ولا سرت!

الاختراق بدأ مع فرعونية مصر التي زرعت بذورها اشتراطات كامب ديفيد، والتي عملت على انتزاعها من حاضرها المحكوم بتحديات معاصرة حكمًا، لا بإسقاطات ماضوية خارج الزمان والمكان، ولا يمكن التعامل مع التحديات المعاصرة إلا باستجابة معاصرة، في مفهوم العروبة المتعدد الأبعاد والأوجه للأمن الغذائي والاقتصادي والسياسي الثقافي والعسكري. كرت السبحة بعد أن فشل العرب باستعادة مصر، فاستعادتهم بعد حرب الخليج الأولى، ليغرقوا جميعًا في مستنقع شبيه بكامب ديفيد الذي اتسع للجميع هذه المرة في مدريد، فكانت أوسلو ووادي عربة.

 انتعاش بذور القبليّة والعشائرية والاثنية والمذهبية والطائفية فيما سمي ب"الربيع العربي" أودى بما تبقى من معاني الانتماء، ومعه صار الاجتماع العربي بكل تعبيراته السياسية والاجتماعية والثقافية، في سياقات التصادم إلى مزيد من عمليات التفتيت والتفكيك، وعلى الأثر تقزمت المصالح وتشعبت المخاطر والتحديات، وتعددت وتنوعت أسبابها ودواعيها.

حتى الجامعة "العربية"، شملها التصنيف المذهبي، فباتت جامعة لتحالف مذهبي قبلي، لديها مقاربتها المذهبية للتهديد الوجودي، يتركز حول الوجود الإيراني شرقًا، ولأنه وجود أصيل في المنطقة لا يستمد حقه بالوجود بنفي الوجود العربي، لذلك انعشت مقاربة التهديد المذهبي السني الشيعي، حيث مركزه إيران وأذرعه الشيعية عربيًا؛ من البحرين إلى الحوثيين في اليمن، ثم الحشد الشعبي في العراق وصولًا إلى حزب الله في لبنان.

ومع "ابراهام" الإماراتي، تنكشف المعاني الحقيقية للتطبيع كتهديد وجودي، وليس خطأ سياسيًا في التوقيت، والخطأ الأكبر اعتباره استهدافًا للفلسطيني أو حتى للعرب وحدهم، لأنه ينال من فكرة الحق في الوجود التاريخي في الزمان والمكان، على مستوى المنطقة والعالم؛ إنه تعبير عن قدرة المستـٓعمِر على اختراع "حقيقة" زائفة، وتدجين المستٓعمٓر وجعله شريكًا في سحق ذاته. وتتوضح أكثر فكرة العدو، ليس فقط ذاك الآخر القابع خلف الحدود، قد يكون الأخطر الموجود في وعيك، من يعبث بمعتقداتك، ويهشم فكرة الحق والحقيقة، ويقوض هويتك وينال من قدرتك على تعريف نفسك، ويعبث بالتخوم الفاصلة بين من هو العدو ومن هو الصديق.