وصية الدم

حجم الخط
الثالثة بتوقيت العتمه، تطرق افكاره فجأة عبارة قرأها ذات وقت، "الجبناء وحدهم يخشون المواجهة"، ينهض عن "برشه"، شاعراً بالعطش، يكسر الفكرة سريعا، ويذهب بفكرته بعيداً، "لم نكن يوماً جبناء، ولم نخشى المواجهة"، يعبر الوقت على وقع انين خافت، "لا بد من المواجهة" ، "الخائفون لا يصنعون الحرية"... لا يذكر متى كتب تلك الجملة في ذاكرته. يشعل سيجارة عصبية المزاج، امام قضبان تنهش نسمة الهواء القادمة الى رئتيه، " اللعنة على العادة، كيف يمكن لنا ان نعتاد هذا الامر" يمسك القضيب الذي يعلوه الصدأ " يريدوننا ان نكون هكذا، ان نفقد الفعل، والدهشة، وان نصدأ، يريدوننا ان نعتادعلى كل شيء" يسحق سيجارته بعصبية اكثر تحت قدمه، يزداد شعوره بالعطش، يحضر الماء، يرمقه حقداً، وبكل الانين الذي يطرق جدران الغرفة، يقذفه عبر القضبان، " بالغضب تنفس الماء الحرية، رأى السماء، ولمع بضوء القمر". نضجت الفكرة، يبحث عن قلم وبقايا ورق بالعتمة ليصيغ افكاره، لكن وجه امه يطالعه من بين السطور ، يضحك له بعيون دامعه، يقوده الى مواسم حصاد السنابل، وقطف الزيتون، الى خبز طابونها الشهي، وقهوتها السمراء الصباحية التي كانت تلون اغاني فيروز بالامل، الى صمتها في الليل، ومشاكسته لها، "لن اكون عريساً، بل شهيداً" وحين يصفر وجهها خوفاً يقترب منها، يقبلها، يعانقها " شو هالحلاوة، اكيد شيبت الشباب بحلاكي وانت صغيرة" .. يقهقه عاليا وهي تصيح " عزيين، استحي على دمك" وتوهمه بانه ستضربه....فيدمع قلبه. تاه بين السطور، وذابت الفكرة بالدمع...قبل ان تبوح جدران السجن بما احتفظت به من اسرار طوال عشرات السنين" لن أكون عبداً للمرحلة ولن اقبل وعلى الملأ بهذا الموقف المذل لأنني لن أعيش سوى مرة واحدة وسوف أعيشها بشرف" هبطت عليه عبارة الشهيد رائد نزال كالوحي في الليل، يذكر ما قرأه عن ذلك الشاب الاسمر الذي قهر السجان لايام وليال، يردد " لن اكون عبداً للمرحلة، لن اكون عبداً للمرحلة"... يكتبها جملة اولى في بداية الورقة ويذهب بالحروف. لا يحتاج سوى لكلمة اخيرة في نهاية الورقة.... "ابقوا على العهد" ... " يا الهي انها وصية الدم، وصية علام الكعبي، وامير ذوقان التي كتبوها بدماءهم التي سالت بعد اشتباك مسلح في نابلس" .. "ابقوا على العهد" "وصية الدم لمن يصون الدم"...يخطها بأنفعال، ويتساءل، "كيف يمكن لنا ان ننسى وصية خطت بالدم، وكيف يمكن للبعض ان يخونها". يستيقظ الفجر متأهبا هذا الصباح، يقف عند القضبان الصدئة، يُمسكها بيديه، يصرخ صرخة الحرية " ان لهذا الانين ان ينتهي، انهضوا ، الشمس تشرق لنا " يتراءى له طائر الفينيق عند حدود الشمس، يطرق باب المعتقل بشراسه " انهضوا الشمس تشرق ، الشمس تشرق". السادسة بتوقيت اول الحصاد، تشرب الحاجة فاطمة قهوتها السمراء المرة، تغني فيروز بصوت خافت " سنرجع يوما خبرني العندليب" تهز رأسها بصمت... بعد قليل، يعلو المذياع "وردنا ما يلي: سجون الاحتلال تشتعل غضبا وثورة، وانباء عن استشهاد احد الاسرى"... تنهض بسرعه.. تصرخ في ابنها، لنترك الحصاد، ونعود الى البيت، ربما لأحمد نصيب فيه" .