للجبهة في يومها: لكِ ينظر الشعب لا تترددي

حجم الخط

في مثل هذا اليوم التاريخي، صدح صوت الحكيم ورفاقه مترافقًا مع أزيز الرصاص وهتافات الحالمين المؤمنين بحتمية التحرير والعودة؛ معلنين  الانطلاق صوب الوطن، بفكر واضح لرجال ونساء من طراز جديد ومعدن صلب، رسموا خريطة طريق تحرير الوطن والعودة إليه، دون وهم أو انفعال وقالوا للشعب: انتبه، منا من لا يريدون المشي إلى حيث تريد ولديهم محطة "يناضلون" للوصول إليها؛ يقفون عندها وينتهون، ومنا من ليس لديهم الاستعداد والإرادة للسير حتى النهاية، ويمكن لهم أن يقطعوا محطات أبعد من الفئه الأولى، ولكنهم يحتاجون لمن "يحملهم" ويقدم لهم مقومات الاستمرار "واغراءات المشي"، أما نحن؛ أبناء المخيم المهًجرين؛ المهمشين؛ المضطهدين والمطاردين؛ نحن العمال وكل الكادحين والفلاحين؛ نحن الطريق؛ نحن الصدق؛ نحن الإخلاص؛ نحن النار التي وإن خفت لهيبها لا تنطفئ. 

لا شك أن الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين تكمل عامها الثالث والخمسين في ظروف صعبة لمرحلة استثنائية فلسطينيًا تشهد تناقضات حزبية داخلية في كافة أحزابها وحركاتها، وتعيش نفس تناقضات المكونات السياسية والأيديولوجية لحركة التحرر القومي العربية التي باتت تأخذ الشكل العلني والمباشر، مما سينتج عنها وبسببها قوى تجديدية أو جديدة، ليس فقط داخل معسكر قوى الثورة والمقاومة، بل أيضًا داخل المعسكر اليميني الرجعي  المستسلم، ولكل معسكر من هذين المعسكرين العوامل الذاتية والموضوعية الدافعة، إما لتجديده وتطوره أو انحساره وتلاشيه.

 فلسطينيًا، لم يعد اليمين الفلسطيني الخائن والمستسلم؛ يمتلك عوامل الدفع الذاتي الضرورية التي يمكن أن تمده بالطاقة كي يستمر في امتلاك القوة التي تمكنه من استمرار اختطافه لمراكز القرار في المؤسسات الوطنية التي تم بنائها قبل أوسلو، لفرض خياره ونهجه على  الشعب الفلسطيني، حيث أصبحت "سلطته" الأوسلوية، وإن هي بلا سلطة كما يقول أصحابها، وشرعيته المزيفة شعبيًا وقانونيًا؛ تشكلان أحد أهم عوامل قوته السياسية والبوليسية الدايتونية القمعية ضد الحركة الوطنية  والمقاومة الشعبية المسلحة التي يعتبرها إرهابًا، مقابل قيامه بهذا الدور "كموظف" لدى معسكر العدو، وخاصة لدى العدو الصهيوني، يتم تزويده بحقن مالية – اقتصادية، بما يسمح له البقاء على قيد الحياه للاستمرار في تنفيذ دوره ووظيفته التي حددها له أسياده في الاتفاقيات التي وقعها معهم، منذ مؤتمر مدريد حتى الآن، ومن المؤكد أنه سيستمر بلعب هذا الدور طوعيًا، إن لم يصطدم بقوه وكتلة شعبية قادرة على وقفه وردعه، وإلا سيستمر في تدمير ما تبقى من إنجازات وطنية وسياسية؛ حققها نضال شعبنا وثورته الحديثة. هنا تتجلى المهام المباشرة والملحة لقوى المقاومة والحركة الوطنية الشعبية التي تستمد قوة دفعها الضرورية الداخلية من تمسكها بالحق التاريخي في كل أرض وتراب الوطن، ومن الروح الكفاحية العالية والاستعداد لتقديم التضحيات وخوض النضال بكل أشكاله ضد الاستعمار الصهيوني الإمبريالي لفلسطين، على أساس برنامج سياسي واضح في مواقفه وممارساته التي تميزه عن تيار أوسلو الذي فتح الأبواب على مصراعيها أمام الحكام الرجعيين لإشهار خياناتهم التاريخية ضد الأمة العربية، ويؤهله من إعادة ثقة الجماهير به والارتقاء إلى كسب تأييدها له وانحيازها وانخراطها في النضال لجانبه، وهذا سيزداد طرديًا كلما لمست هذه الجماهير، على أرض الواقع، إن قيادة(ات) هذا الاتجاه تستجيب لطموحاتها وملتزمة بأهدافها وعلى استعداد للتضحية في سبيل التمسك بها وتحقيقها.

هذين الاتجاهين؛ الثورة والثورة المضادة، لن يعملان ويتصارعان في الساحة الفلسطينية بشكل "مستقل" لأسباب عده؛ أهمها: أن قيادات الثورة المضادة، الاتجاه اليميني المستسلم الذي خرج نهائيًا من إطار المصالح الوطنية واساليب الدفاع عنها، ورغم ما تشهده في بعض الأحيان من تعارضات داخلية في صفها الأول؛ بسبب صراع المصالح والامتيازات، لم يعد وجودها ينم عن استجابة لضرورات فلسطينية، لأن التحولات البنيوية داخلها؛ جعلت منها أحد الأدوات التنفيذية،  رغم أنها الأصغر حجمًا والأضعف قوة، لمشروع الهيمنة والسيطرة الإمبريالي الصهيوني على المنطقة، وبالتالي الصراع الوطني والطبقي معها وضدها هو صراع ضد كل أدوات المشروع الاستعماري وهي من ضمنه، لهذا ستهب القوى الرجعية للدفاع عن الأداة الفلسطينية المتمثلة بقيادة اليمين الفلسطيني، رغم التعارضات معه إذا ما تعرض للخطر على أيدي القوى التقدمية الثورية، كما يؤكد الحكيم جورج حبش في مذكراته.

أصدق تعبير عن رؤية الحكيم  لديالكتيك العلاقة بين اليمين الفلسطيني الرجعي المستسلم والأنظمة الرجعية العربية هو "لحس" محمود عباس لتصريحاته النارية التي خوَّن فيها حكام الإمارات؛ بسبب توقيعهم لاتفاق "سلام" مع العدو الصهيوني، سبق له ولمن سبقوه في القيادة والرئاسة أن وقعوا اتفاقيات؛ شكلت شرعنة لخيانات الآخرين، وإعادته تبادل "السفراء"، بعد أن أقدم على سحبهم من الدول الخليجية المُطبعة في مسرحيه؛ سمحت له أن يجمع كل الأحزاب والحركات والجبهات تحت مظلته، ويحوز على ثقة أسياده من جديد. كل هذا يتم في أجواء من الانحطاط والوقاحة في الكشف عن تاريخ عمالة وخيانة الحكام الرجعيين العرب، ليس فقط في الدول النفطية، بل في معظم الأقطار العربية، مما يفرض على قوى حركة التحرر أن تحدد معسكر العدو بدقة، كما فعلت الجبهة الشعبية من تأسيسها وانطلاقتها، والتي جاءت التطورات لتعيد التأكيد على صوابية التحليل العلمي الذي قدمته الاستراتيجية السياسية والتنظيمية للجبهة الشعبية التي أقرها المؤتمر الثاني للجبهة في شباط عام 1968، والتي شُيَدت على أعمدتها جبهة الشعب بنائها الصلب.

إن العوامل الموضوعية تضغط على القوى الثورية الطليعية فلسطينيًا أولًا أن تمتشق سلاح إرادتها وتباشر في ممارسة ما تقوله على أرض الواقع وتكف وتقلع عن استراتيجية استجداء قيادات اليمين تنفيذ إرادتها ومطالبها لأنه لن يفعل ذلك أبدًا، فمن يُمكن له أن يضع حدًا لانحدار هذا اليمين ولخطواته المتسارعة لمزيد من التفريط والاستسلام وينقذ الوطن، ومن يُمكن له أن يضع حدًا لهذه المأساة يصنع تاريخًا، ومن يٌمكن له أن يعيد الثقة بالنفس وبالحركة الوطنية والمقاومة؛ يصبح "نبيًا"، ومن يبادر لخطوة عملية على الأرض ويفرض مسارًا وطنيًا جديدًا؛ يحتل عن جدارة قيادة هذا الشعب الذي لم يعد يحتمل، ليس فقط الخيانات بكل أشكالها؛ وطنيًا وقوميًا، بل والوعود البائسة الهزيلة والخادعة لقيادات المعارضة بكل مشاربها الأيديولوجية الرافضة لنهج اليمين الفلسطيني الأوسلوي، هذا اليمين الذي لا يترك فرصه؛ إلا ويؤكد فيها أن "طريق المفاوضات والتسوية السلمية والاندماج  في المعسكر الإمبريالي الصهيوني العربي الرجعي لا رجعة فيه، ولا يريد بديلًا عنه أو له".

هنا يعود من جديد طرح السؤال التاريخي البلشفي ال لينين ي، ما العمل؟ ومن سيقوم بهذا العمل؟ أي لا يكفي أن نطرح السؤال وأن نجيب عليه، بل يجب أن نحدد أداة التنفيذ وبكلمات أكثر دقة، لا يكفي تفسير المرحلة وتحليلها، بل يجب العمل على تغييرها؛ لأن هدف الحزب والطليعة الثورية عدم التكيف مع الواقع والاندماج فيه، بل التمرد عليه وتغييره، وإلا يفقد الحزب ثوريته وطلائعيته ويتكئ بسلام على مقاعد الاصلاحية وامتيازاتها.

ليس الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين فقط من يقف على مفترق طرق الأزمة الثورية والوطنية، بل كل القوى التي تشكل الحركة الوطنية الفلسطينية، ومطلوب منها ومن كافة الوطنين والمناضلين أن يجيبوا على سؤال: ما العمل؟ لكن للجبهة الشعبية خصوصية لا تتمتع بها أي قوة فلسطينية، تتمثل في أنها الحزب (التنظيم) الثوري الذي أدرك مبكرًا، منذ انطلاقة الثورة الحديثة، طبيعة وأهداف مشروع التسوية السياسية، والذي بدأت ارهاصاته في الحديث عن مؤتمر دولي بداية عقد السبعينيات من القرن الماضي، بعد مجازر أيلول في الأردن مباشرة، وأثناء الحرب على المقاومة الفلسطينية  والحركة الوطنية في لبنان في نفس الفترة، تلك الدعوات التي دغدغت عواطف اليمين ولقيت آذان صاغية؛ باسم الواقعية الثورية عند بعض "اليسار الثوري"، مما فرض على الجبهة الشعبية في تلك الفترة أن ترفع وتعلي من سقف التصدي لتلك "المبادرات"؛ غير آبهة بما سيقوله عنها حلفائها الدوليين، وشكلت جبهة الرفض للحلول الاستسلامية وخرجت من اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير كي يتسنى لها التصدي لانحراف قيادتها وعدم الظهور بمظهر المتواطئ معها واشعارها أن خيانة القضية لا يمكن أن يمر أو يُسلّم به، لكن ما يقلق ويحير الجماهير أنه رغم  انتقال القيادة اليمينية، منذ مؤتمر مدريد 1991، من العالم الافتراضي للتسوية والاعتراف بالكيان الصهيوني إلى العالم الفعلي، أي عالم الاعتراف بالكيان وتوقيع العديد من الاتفاقيات معه أهمها اتفاقي أوسلو وباريس التي تشمل كافة مجالات العلاقات معه؛ الأمنية، الاقتصادية، التجارية، المالية، والعلاقات المدنية، أي التطبيع في أوقح أشكاله، مما ساهم في إنهاء عزلة الكيان عالميًا وعربيًا. رغم هذا الانتقال لم يرتقِ الرد ولم ترتقِ المواجهة لليمين، وخاصة من قبل الجبهة الشعبية، إلى حد القطع معه ونزع الغطاء الوطني عنه وعن الاتفاقيات التي وقعها مع كيان العدو، كما حدث عندما كانت التسوية والصلح معه مجرد افتراضية؛ السؤال من جديد: لماذا؟

حقيقة أن الجبهة الشعبية؛ رفضت المفاوضات منذ مدريد حتى الآن ورفضت كافة الاتفاقيات التي وقعتها القيادة اليمينية مع كيان العدو، ولم تكن يومًا من سرب المغردين بأن اتقاقيات أوسلو "نصرًا وتحريرًا" ولا من جوقة المراهنين على امكانية تطوير أوسلو من "حكم ذاتي إلى استقلال"؛ بسبب الاختلال التام لميزان القوى لصالح العدو. ولم تشاطر الواقعين في أوهامهم أن "أزمة أوسلو تكمن في مكانة ونوعية الفريق المفاوض ومرجعية المفاوضات والجدول الزمني للتفاوض"، أي أن الخلل لم يكمن جوهريًا في التحليل السياسي العلمي لطبيعة المرحلة، ولا في قرار عودة مجموعة من الرفاق، وفي مقدمتهم الرفيق الشهيد أبو علي مصطفى ، رغم خطورته وامكانيات تأويلة، أن الخطأ تمثل في المشاركة الرسمية في الانتخابات التشريعية وقبلها في بعض المؤسسات والأجهزة المنبثقة عن أوسلو "والتي عمليًا يتم إدراجها بالتسليم "بالأمر الواقع"، وما يمكن أن يترافق مع هذه الممارسة السياسية من نمو عقلية المهادنة واحلال مبدأ الانتظارية؛ مكان مبدأ الصراع على قاعدة "لاحق العيار لباب الدار" أو "خلي أبو مازن ايجرب، ما راح يطلع معه شي"؛ اكيد ما "راح يطلع مع أبو مازن شي"، ولكن بكل تأكيد "سيطلع مع الصهاينة كل الأشياء"، هذه السياسة "التكتيكية" التي اشتركت بها كل قوى المعارضة؛ من حركة "حماس" إلى "الشعبية" وما بينهما؛ ساهم موضوعيًا في إعطاء مهلة للصهاينة لتنفيذ سياساتهم، وليس لأبو مازن؛ لأن "أبو مازن"، لا يمكن له أن ينفذ ما لا يريده الصهاينة والأمريكان. هذه السياسة في الحقيقة، وفي الجوهر تعكس خلل نظري فكري عند قوى المعارضة، وإن كان هذا الخلل ممكن تبريره، وتفهمه للقوى ذات الأيديولوجية البرجوازية والدينية، لا يمكن قبوله أو السكوت عليه للأحزاب والجبهات التي تسترشد بالفكر العلمي الماركسي؛ بسبب عدم إدراكها على ما يبدو أن المصالحة "التاريخية" الطبقية بين البرجوازية الفلسطينية، ممثلة بأحزاب وحركات اليمين وعلى رأسها حركة "فتح"، وبين البرجوازية اليهودية، ممثلة بالصهيونية وكيانها الاستعماري في فلسطين، لم تكن تكتيكيه، بل استراتيجيه لا رجعة عنها، رغم التعارضات وبعض التناقضات المعقدة التي تتسم بها الرأسمالية الداخلية، وأحد الأدلة على ذلك، إنه خلال أكثر من ثلاثين عامًا، وهذه القوى تنتظر من "أبو مازن" الاستجابة لمطالبها ونداءاتها واستجداءاتها، حيث نراه ليس فقط؛ غير آبه ومكترث بها، بل ستمُر عليها 30 سنه أخرى، إذا ما استمرت بذات السياسة؛ متكئه في صالة الانتظار؛ تحصد خلالها مزيدًا من الخيبة والفشل؛ فابتعاد اليمين عن الشواطئ الوطنية التي غادرها بلا رجعة، منذ ما قبل أوسلو؛ سيزداد ويتعمق.

كما يتضح أصبح المشهد العربي ومن ضمنه الفلسطيني، واضحًا، ولم يعد معقدًا وغامضًا ورماديًا، إنه يتحرك بكل وقاحة وصراحة؛ فتحالفات الأنظمة واضحة وأهدافها واضحة أيضًا، وموقفها من  قضيتنا جاء بالضبط كما حددته وثائق الجبهة منذ 53 سنة، ولم تعد هنالك أي امكانيه للاستمرار في إدارة الصراع والتناقضات في الساحة الفلسطينية بنفس الطريقة والعقلية والأدوات، حيث لا يمكن ومن غير المعقول أن تتم التضحية بحقوق الشعب وتاريخه ومستقبله على مذبح الدفاع عن "المؤسسة"، وتصبح المؤسسة أكثر قدسية وأهمية من الشعب الذي بدونه وبدون حقوقه كاملة.. لا شرعيه لأية مؤسسة مهما كان حجمها ونفوذها ومهما حقنت بشرعيات خارجية.

 ففي الوقت الذي لم تسطيع فيه القوى الثورية أن تحدث الفرز الوطني والقومي، ها هي تقوم به القوى الرجعية عميلة الإمبريالية والصهيونية، وما على القوى الثورية الحقيقية، وفي مقدمتها الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين؛ إلا أن تقبل التحدي؛ لأن عيون الشعب تنظر للجبهة وتتجه إليها في "عيدها"، وعليها أن لا تتردد، وأن تبقى سباقه في تحمل عبئ الطريق والمسار الثوري المطلوب، فكما نحن الفلسطينيين نطالب القوى العربية الثورية والوطنية؛ مقاطعة أنظمتها العميلة المطبعة، مع العدو والنضال من أجل إسقاطها وإسقاط علاقاتها واتفاقياتها مع العدو، يجب علينا أن نطبق هذه السياسة في ساحتنا الفلسطيني، أولًا بمطالبة الجبهة الشعبية، ومعها كل المناضلين والمخلصين بالانتقال من مربع المماطلة ومطالبة قيادة اليمين والسلطة، بالغاء أوسلو والتنسيق الأمني، إلى  القطع التام معهم والنضال؛ من أجل إسقاط النهج وأصحابه كي نستطيع إسقاط الاتفاقيات مع العدو وهزيمته؛ لان ما رفض اليمين تنفيذه من مطالب وطنيه خلال 30 عامًا، لن يقدم على القيام به الآن، ولو كانت لديه النوايا والاستعداد لتلبية نداءات الفصائل للتراجع عن قراره الأخير بإعادة علاقاته مع العدو لما كان قد أقدم على إعادتها أصلًا، أي هو يتصرف حسب مصالحه واحتياجاته الطبقية الأنانية الضيقة، لا حسب رغبة الشعب الوطنية.