الرأي العام وأشياء أخرى

حجم الخط

بدا الصدام علنياً ومحتدماً بين سطوة رأس المال وقوة الرأي العام في أزمة رياضية رسائلها السياسية ماثلة.

 لوهلة أعتقد كثيرون أن تنظيم بطولة باسم «السوبر الأوروبي»، تنحي «المؤسسة الأوروبية لكرة القدم» فيما يشبه الانقلاب، تحصر المنافسة وجني الأموال بين أندية النخبة وحدها، دون أن يكون ممكناً دخول أندية أصغر إلى ميدان اللعبة الأكثر شعبية، مسألة منتهية.

 لم يكن ممكناً لأي حكومة، أو اتحاد، أو رابطة منع البطولة المقترحة بالأوامر الإدارية، ولا كان مجدياً التلويح بإبعاد الفرق المشاركة من البطولات القارية التقليدية.

إذا ما فرغت الدوريات الأوروبية الكبرى من تلك الأندية، فإنها تفقد جاذبية مشاهدتها وما تدره من أموال حقوق بث ورعاية.

 على عكس حسابات القوة الظاهرة حسمت النتائج سريعاً بقوة الرأي العام، انسحبت أغلب أندية النخبة الاثني عشر من البطولة المقترحة واعتذرت لجماهيرها الغاضبة.

 لم تكن القضية حسابات الربح وتوزيعها على «الكبار»، بل الدفاع عن قواعد المنافسة التي تضفي على اللعبة شعبيتها والشغف بها.

 بقدر حضور الرأي العام تتأكد قوة الدول في تقرير مصائرها من أبسط القضايا إلى أكثرها خطورة، من ملاعب الرياضة إلى أزمات الوجود. الفارق بين دولة وأخرى يتلخص في المسارات التي يعبر بها الرأي العام عن اعتقاداته وانحيازاته ومخاوفه، مدى اتساع المجال العام للحوار والتنوع وحدود القدرة على إدارة أية تناقضات بالوسائل السلمية. إذا ما احترمت الإرادة العامة فإن الدولة، أية دولة، تكتسب تماسكها وقوتها.

 كما يحدث في دول العالم الثالث حدثت تظاهرات أمام مقرات أندية النخبة الأوروبية، خاصة في بريطانيا، احتجت وأحرقت شعارات أنديتها، أعلنت بطرق مختلفة رفضها المشاركة في البطولة المقترحة، واعترت منصات التواصل الاجتماعي موجات غضب واحتجاج، غير أنها لم تتوقف عند هذه الحدود، فقد كانت الطرق سالكة لكي يكون الصوت مسموعاً ومؤثراً وحاسماً. شاركت الصحف والفضائيات في المساجلات الساخنة، طرحت وجهات النظر المختلفة دون إقصاء، وفرضت قوة الرأي العام نفسها على الأطراف المتنازعة.

لا يمكن أن ينسب انكسار «السوبر الأوروبي» إلى ما أبدته بعض الحكومات من تصريحات، أو ما تبنته من خيارات، على النحو الذي فعله الرئيس الفرنسي «إيمانويل ماكرون» ورئيس الوزراء البريطاني «بوريس جونسون»، فلا ولاية لأية سلطة سياسية على لعبة كرة القدم، يمكنها أن تأمر فتطاع.

السياسة دخلت على الخط من باب مخاطبة الرأي العام، أو إبداء الانحياز إليه لاكتساب ثقته، ربما حاورت في الكواليس وخاطبت مصالح ودعت لإصلاحات، لكنها لم تكن صاحبة القرار الحاسم الأخير.

 المفارقة –هنا- أن «جونسون» و«ماكرون» اتخذا الموقف نفسه من قضية تمس «المؤسسة الأوروبية لكرة القدم»، حفاظاً عليها، رغم أنهما من الناحية السياسية وقفا على نقيض من أزمة «البريكست»، أو الخروج البريطاني من الاتحاد الأوروبي، ف«جونسون» تبنى ذلك الخروج و«ماكرون» ناهضه.

 يستلفت الانتباه أن القوتين الكبيرتين، الولايات المتحدة والصين، لا تملكان حضوراً مميزاً في ملاعب كرة القدم، رغم أن كلتاهما ضخت استثمارات ضخمة لجذب اللاعبين الأكثر شهرة قبل تقاعدهم النهائي عن ممارسة اللعبة لعل ذلك يجذب الانتباه.

 إثر الحرب العالمية الثانية بدت صناعة السينما في هوليوود من مقومات الصعود الأمريكي إلى منصة القوة العظمى الأولى.

الشغف بكرة القدم منقولة مسابقاتها إلى كافة أرجاء العالم عبر البث الفضائي احتل المكانة نفسها، غير أن أوروبا، التي تحوز القسط الأكبر من أوراق اللعبة الأكثر تأثيراً،تجد نفسها الآن أقرب إلى أوضاع من لا يعرف إلى أين تذهب به التفاعلات والحسابات المستجدة.

لا يمكن استبعاد اعتبارات القوة الناعمة لملاعب كرة القدم في الصراع على المستقبل بين القوتين الكبيرتين الأمريكية والصينية، ولا في فرص ترميم الاتحاد الأوروبي التي تعرضت صدقيته لانكسار فادح تحت ضربات الجائحة. ما الذي يمكن أن يحدث؟

 هذا سؤال في السياسة قبل كرة القدم! بعد جائحة «كورونا» غاب الجمهور عن المدرجات، فقدت اللعبة جانباً كبيراً من بهجتها وألحقت بالأندية خسائر باهظة.

 تصدرت الاعتبارات المالية وحدها التفكير في البطولة المقترحة. كان ذلك قراراً انفرادياً لملاك الأندية، لا استشاروا خبراء في اللعبة، ولا راجعوا المديرين الفنيين لأنديتهم، ولا استطلعوا آراء اللاعبين، كأنهم أرادوا أن يقولوا: «نحن مستثمرون في كرة القدم ولسنا جمعيات خيرية».

عندما يصرح رئيس «الفيفا» «انفانتينو» أن ما يهمه في هذه الأزمة هو «حماية النموذج الرياضي فإنه يدخل إلى صلبها، لكنه لم يكن بوسعه إيقاف المشروع، ثم إن تلويحه بمنع اللاعبين الذين يشاركون في «السوبر الأوروبي» من تمثيل بلادهم في البطولات القارية والدولية، يصعب تنفيذه دون انهيارات في بنية المؤسسة الدولية لكرة القدم.

 مشكلة الاتحاد الدولي لكرة القدم «الفيفا» والاتحاد الأوروبي «اليويفا»، كما اتحادات قارية أخرى كالاتحاد الإفريقي «الكاف»، حجم اتهامات الفساد التي لاحقت قياداتها.

إذا كان موضوع المنازعة على المال، أو اتهام ملاك الأندية ب«الجشع» فإن جوهر الرياضة ينتحر شنقاً.

ساعدت حرية الصحافة وتداول المعلومات في بناء تصور شعبي عام عما قد يلحقه «السوبر الأوروبي» من أضرار فادحة بمفهوم كرة القدم الحديثة.

 إذا ما ألغيت المنافسة تزهق روح الرياضة وتصبح كرة القدم محض فرجة لا تثير حماساً ولا تصنع شغفاً.

بقوة الرأي العام يكاد المشروع «السوبر الأوروبي» أن يسحق، لكن ما حدث بدلالاته وتفاعلاته أخطر بكثير من منازعات في كرة القدم.