القوى الفلسطينية في مواجهة تخريد السلطة الفلسطينية

حجم الخط

لن أناقش كثيراً في حقيقة استهلاك السلطة الفلسطينية بالكامل، وانتهاء عمرها الافتراضي منذ عدة سنوات، وهو ما يستوجب قيام المالك "وهو ليس الشعب الفلسطيني بكل الأحوال" بعملية التخريد للتخلص منها بأقل الخسائر، ولذا فإنني سأفتح موضوعاً مرتبطاً بموقف القوى الفلسطينية التي تقف في الاتجاه المعاكس من السلطة، وأطرح تساؤلاً: هل ستبقى هذه القوى قابعةً على المدرجات تمارس دور المتفرج على الأحداث من بعيد، وكل مبتغاها تحصين ذاتها من الانشطارات التي يمكن أن تنشأ عن عملية تخريد السلطة، وهل حقاً تستطيع أن تحصن ذاتها اذا اختارت هذا الحياد السلبي؟.

إن عملية انهيار السلطة واغلاق حسابات المرحلة السابقة التي أصبحت حتمية في كل الأحوال، ستتبعها مرحلة جديدة ستتشكل ملامحها ارتباطاً بالأدوات المستخدمة في عملية تخريدها، فالاحتلال والإدارة الأمريكية يرغبون في سلطة بمقاسات جديدة تتناسب مع الوقائع السياسية والميدانية التي تخلقت خلال مرحلة السلطة السابقة، ولذا فانهم سيعتمدون على أدوات تحقق لهم اطار سياسي وهيكلي جديد، اطار ينحصر في الدور الوظيفي الأمني ويضمن التمدد الاستيطاني للكيان الصهيوني في الضفة الغربية والقدس، دون ازعاجٍ بوهم حل الدولتين أو حق العودة وغيرها من الأحلام الفلسطينية، لذا ليس شرطاً أن تكون الأدوات دموية أو سلمية، موحدة أو متصارعة، بعد موت الرئيس أو قبله، لكن المهم أنها تحقق الهدف.

إن هذا السيناريو هو الأكثر حضوراً في المشهد القائم لكنه السيناريو الوحيد الممكن اذا كان هناك لاعبين آخرين على الساحة الفلسطينية، وأهم القوى القادرة على التأثير في المشهد هي القوى الفلسطينية التي لازالت على مدرجات الجماهير، كما أنها وقضيتها الوطنية ستكون الأكثر تأثراً وخسارةً في حال حصلت القوى المعادية على ما تصبو إليه، فالقادم لن يكون مجرد سقوطاً سياسياً جديداً بقدر ما مهو مدخلاً لتصفية وجودية مادية وفكرية للحق الفلسطيني، وهذا ليس مبالغة أو تهويل، فمرحلة أوسلوا السابقة لم تكن تهدف إلا لهذه التصفية، وقد كادت أن تنجح لولا ما دفعته القوى الثورية أفراداً وأحزاب من ثمن باهظ للحد من حالة الهبوط الحادة التي مرت بها القضية الفلسطينية على كل الجبهات.

وللتوضيح أكثر لما يمكن أن يكون عليه السيناريو القادم علينا أن نستعرض بلمحة خاطفة التركيبة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية التي خلفتها مرحلة أوسلو، رأس مال ريعي وكمبرادوري متحالف عضوياً ومصلحياً مع رأسماليات صهيونية لها حق الغلبة في القرار الاستثماري، يشغل موقع القرار السياسي والسلطوي داخل أروقة المؤسسات الفلسطينية، يدير دولة عميقة مكونة من شبكة عريضة لقوى الأمن المُفرَغَة وطنياً والمرتبطة وجودياً بهذه السلطة وقادتها بمختلف تلاوينهم الشكلية بقيادة وسطية وعلوية متعددة الولاءات المحلية والأجنبية، ومؤسسة إدارية روتينها الوظيفي مثقل بقروضها البنكية التي دفعتها لممارسة الرشوة والاختلاس والمحسوبية كجزء طبيعي من هذا الروتين، ونسبة جماهيرية مضخمة ممن يقدسون الحياد والاستقلالية عن الوطن وهمومه سعياً للقمة العيش أو خوفاً من الرقابة والرقيب العبري والعربي، منظومة اقتصادية مترابطة ومتكأه على بعضها البعض وعلى التراخيص والتصاريح السامية أكثر من اتكائها على قوانين السوق، هي باختصار بيئة حاضنة ليس فقط لعملية التهويد والاستيطان والضم وإنما أيضاً لفكرة التصفية الذاتية أو الترحيل القسري والطوعي لبلاد ما خلف الحق والعودة والتحرير.

ووسط هذه الدولة العميقة جيش صغير كبير متناثر مشتت من رفاق باسل الأعرج، منهم من يحمل صليبه على ظهره سائراً نحو درب الآلام، ومنهم من يبحث عن رصاصة أو قلم للرصاص ينتظر لقاء رفاق الأسر، أو يقرأ عن القائد في كتب الثورة، وهناك على بقعة صغيرة أسفل شواطئ شرق المتوسط، أسداً يزأر مشهراً أنيابه ومخالبه يدب الخوف والرعب في قلوب كل مجاوريه رغم أنه محاطاً بقفصِ الحصار ودكتاتورية الجغرافيا، تفترس اليد التي تحاول الدخول إلى قفصه، يقدم له سجانيه الطعام قسراً أحياناً وتطويعاً أحياناً أخرى، آملين أن تخر قواه أو يعتاد رفاهية الحياة داخل القفص.

جميعنا يَحلُم برؤية وطنية صادقة بتوجيه دفة المرحلة والسلطة الأوسلوية ودولتها العميقة المتشكلة نحو شواطئ أكثر أمناً، بإعادة الاعتبار لوظيفتها ودورها وشكلها لتكون أداة وطنية تنفض كل رجسها وتتطهر من دورها الأمني، تكون مرجعيتها منظمة التحرير بعد إعادة بنائها واصلاحها واستعادة ميثاقها وبرنامجها الوطني وتوحد قوى الشعب الفلسطيني وتكتشف طاقاته وتستثمرها، وهو ما تعول عليه غالبية القوى الفلسطينية ولكن دون أن تبحث عن بدائل أخرى، فاحتمالية عودة القيادة المتنفذة للحاضنة الوطنية جبراً أو طوعاً أو ديمقراطياً واردة ولكن ليست كبيرة، ولذا فان المراهنة على هذه الاحتمالية وحدها نوع من المقامرة خاصة أن الاحتمال الأكبر الذي تعززه ممارساتها وخطابها هو الانسياق خلف ما يرسمه لها الأمريكي وحليفه الصهيوني والمصالح الخاصة لرجالتها، كما أن المراهنة على وصول المد الثوري الشعبوي لمرحلة تقلب الطاولة لا يعني بأي حال أنها ستقلب في الاتجاه الوطني دون حوامل لقوى منظمة قوية تدفع بهذا الاتجاه.

إن ما يعيق قوى المعارضة للسلطة في البحث عن البدائل والاحتمالات الأخرى للخروج من هذا النفق هو الخوف من التفكير خارج الصندوق، والارتهان لما يقوم به الآخر من أفعال والانحصار دائماً في زاوية ردود الأفعال، إضافة إلى الغرق في التفاصيل الجزئية رغم التوافق على الرؤية والخطوط العامة، وعدم امتلاك روح المجازفة، أو الخوف من دفع تكلفة الفاتورة على المستوى الشعبي والحزبي، لذا تختار الاختباء خلف معادلة سلم التناقضات وأولوياتها رغم تشابكها وتقاطعها الواضح، والاكتفاء بتحميل الطرف الآخر سبب كل الكوارث التي حدثت ويمكن أن تحدث إلى أن يأتي يهبط علينا المخلص بتغيير في موازين القوى الدولية والإقليمية.

خارج الصندوق يحمل ما يحمل مما هو قابل للفعل وما هو غير قابل، ومنها ما يُعلن ومالا يُعلن، ولكن أدوات الحركة التي تمتلكها القوى هي التي يمكن أن تحدد الخيارات والسبل المتاحة والتي يمكن أن تساهم في زيادة نسبة تحقق الرؤية الوطنية بالوحدة جبرياً إن لم تتوفر الرغبة الطوعية والتي برأيي لن تتوفر، وأيضاً تكون أكثر استعداداً لمواجهة المخططات العدائية المرسومة للمرحلة القادمة، وتقطع الطريق أمام الاستفراد بالقوى الفلسطينية وتعزز من عملها المشترك وتزيد من نفوذها وحضورها بين الجماهير الفلسطينية وخاصة في مناطق الشتات والتي تتعطش لخلق أدوار لها على ساحة القضية الفلسطينية، ولكن هل ستتولد الإرادة أم ستبقى سِر مكانك.