في الذكرى (34) لانتفاضة الحجارة: إنجازات شعبية هائلة واستثمار سياسي بائس لها وغدر بأهدافها المعلنة

حجم الخط

يحيي شعبنا الفلسطيني الذكرى الرابعة والثلاثين لانتفاضة الحجارة ( 1987-1993) بفخر وعنفوان، بوصفها الانتفاضة الأبرز منذ انطلاقة الثورة الفلسطينية ومنذ تشكيل منظمة التحرير الفلسطينية عام 1964، والتي كان صداها وفعلها المقاوم يتردد يومياً في كافة وسائل الاعلام العالمية، وباتت اللغات الأجنبية تتبنى اسمها العربي الفلسطيني بدون ترجمات .لكن ما يجب ذكره في ذكرى الانتفاضة، أن الكثير من المؤرخين والباحثين الفلسطينيين والعرب، يؤرخون للانتفاضة من زاوية القدرات النضالية الهائلة لدى الشعب الفلسطيني، والتضحيات الجسام التي قدمها، من أجل تحقيق الأهداف التي انطلقت من أجلها، لكنهم يتجاهلون حقيقة أن هذه التضحيات جرى توظيفها في إطار مشروع سياسي يتنافى بشكل مطلق مع ما أراده شعبنا من هذه الانتفاضة، للتخلص من الاحتلال وتحقيق أهداف وطنية أخرى.

صحيح أن شرارة هذه الانتفاضة التي أدهشت العالم تمثلت بقيام سائق شاحنة إسرائيلي بدهس مجموعة من العمّال الفلسطينيّين على حاجز إيريز (بيت حانون) في 8 ديسمبر (كانون أول) 1987، حيث انطلقت من مخيم جباليا في قطاع غزة، بتاريخ 9 ديسمبر 1987 لتمتد بعد ذلك إلى كل مدن وقرى ومخيّمات الضفة الغربية وقطاع غزة، لكن الأسباب الحقيقية للانتفاضة ، تمثلت في رفض الشعب الفلسطيني للاحتلال والاستيطان ورفضه لإجراءات ضم القدس ، وللإجراءات القمعية من قتل وإبعاد وزج الآلاف من أبناء وبنات الشعب الفلسطيني في المعتقلات ولإجراءات التضييق الاقتصادي، وبالتالي وصول التناقض والصراع مع العدو في تلك الفترة إلى ذروته "نقطة التأزيم"، يضاف إلى ذلك أن الشعب الفلسطيني في الداخل وقواه الوطنية سعت إلى تخليص منظمة التحرير من مأزقها بعد خروج فصائلها من بيروت، إثر العدوان الصهيوني على لبنان عام 1982 .

وكان من أسباب ديمومتها لمدة خمس سنوات، تشكيل قيادة موحدة لها من فصائل منظمة التحرير الفلسطينية ومن شخصيات وطنية لبرمجة فعالياتها الكفاحية، من مظاهرات وإضرابات وعصيان مدني، وأيام غضب تخللها إلقاء الحجارة وقنابل المولوتوف على جنود العدو وقطعان المستوطنين، وتوحد الشعب الفلسطيني حول نهجها وأهدافها، إذ انخرط فيها أبناء التشعب الفلسطيني من مختلف فئاته الاجتماعية وتميزت بشموليتها الجغرافية والديمغرافية والطبقية.

وقد حددت القيادة الموحدة العديد من الأهداف للانتفاضة أبرزها:

1. إقامة دولة فلسطينية مستقلة وعاصمتها القدس وتمكين الفلسطينيين من تقرير مصيره (لم تأتِ على ذكر القرار 242 والاعتراف بالكيان الصهيوني).

2. تفكيك المستوطنات.

3. عودة اللاجئين دون قيد أو شرط.

4. تحرير الأسرى الفلسطينيين والعرب من المعتقلات الصهيونية.

إنجازات الانتفاضة والغدر السياسي بها

لقد أنجزت انتفاضة الحجارة إنجازات هائلة على الصعيدين الميداني والسياسي نذكر منها ما يلي:

1. ضربت هذه الانتفاضة معنويات جيش الاحتلال في الصميم بعد أن تم جره من قبل أطفال الانتفاضة إلى حواري وأزقة المدن والقرى في معارك لا تتوقف بين كر وفر على مدى ست سنوات، ووصلت القيادات العسكرية الإسرائيلية إلى قناعة بعدم وجود حل عسكري للصراع مع الفلسطينيين.

2. حققت وحدة ميدانية غير مسبوقة بين أبناء الشعب الفلسطيني وبين فصائله وقواه الاجتماعية في إطار الانتظام بفعاليات نضالية جرى برمجتها من قبل القيادة الموحدة للانتفاضة.

3. حققت أكبر عزلة دولية للكيان الصهيوني، وأكبر التفاف شعبي عربي ودولي عالمي حول أهدافها منذ نكبة 1948.

لكن هذه الانتفاضة لم تحقق الأهداف سالفة الذكر أو أي جزء منها، ولم يتم تثميرها سياسياً باتجاه تحقيق الأهداف التي انطلقت من أجلها، بل غدر بها وبالتضحيات الهائلة التي قدمتها حيث بلغ عدد الشهداء 1,162 شهيداً، بينهم حوالي 241 طفلا وأصيب خلالها نحو 90 ألف جريح، واعتقل ما يزيد عن 60 ألف فلسطيني، ناهيك عن نسف 1228 منزلاً.

لقد تم الغدر بالانتفاضة وبتضحيات شعبنا، من خلال طرح مبادرات ومشاريع لا تمت بصلة للانتفاضة وأهدافها، وبهذا الصدد نشير إلى ما يلي:

1. المبادرة السياسية التي صدرت عن الدورة (19) للمجلس الوطني الفلسطيني 12-15 تشرين ثاني ( نوفمبر) عام 1988، التي انطوت بوضوح على الاعتراف بقرا ر مجلس الأمن رقم 242 الذي يضمن الاعتراف بالكيان الصهيوني، مع إضافة عبارة حق تقرير المصير في سياق تسويقي للمبادرة حتى يتقبلها الشعب الفلسطيني.

2. النزول تحت سقف هذه المبادرة في لقاءات القيادة المتنفذة للمنظمة مع وفد كبير من القيادات الصهيونية الأمريكية في تشرين ثاني وكانون أول (ديسمبر) 1988، بترتيب من وزير خارجية السويد "ستيف أندرسون"، التي ضمنت الاعتراف بالكيان الصهيوني ونبذ الإرهاب (المقاومة).

3. خطاب أبو عمار في الجمعية العامة في جنيف في 13 كانون أول (ديسمبر) 1988 بعد اطلاع الإدارة الأمريكية عليه والتأشير بالموافقة عليه، الذي تضمن ما تم التوصل إليه في ستوكهولم مع القيادات الصهيونية .

واللافت للنظر أن قيادة المنظمة قدمت كل هذه التنازلات مقابل أن تقبل الإدارة الأمريكية ببدء الحوار مع المنظمة فقط، إذ أوعزت ببدء اللقاءات بين السفير الأمريكي في تونس "روبرت بليترو مع ممثل المنظمة ياسر عبد ربة.

4. توجه أبو عمار لفرنسا مباشرة ًبعد خطاب جنيف ولقائه بالرئيس الفرنسي "ميتران" واستجابة أبو عمار لطلب وزير خارجية فرنسا " رولان دوما" بضرورة أن يقدم شيئاً للرئيس ميتران أسوةً بما قدمه للأمريكان، إذ اقترح على عرفات إلغاء الميثاق الوطني الفلسطيني، فكان أن سأل مدير مكتب المنظمة في باريس "إبراهيم الصوص" عن الكلمة الفرنسية التي تعني (الإلغاء) فأبلغه أنها " كادوك"، وتم إعداد لقاء صحفي على عجل أعلن فيه أبو عمار الميثاق قائلاً "الميثاق كادوك".

والتطور الأخطر الذي أجهض الانتفاضة، لجوء قيادة المنظمة إلى توقيع اتفاقيات أوسلو عام 1993، إذ يمكننا القول أن انتفاضة الحجارة قبرت باتفاقيات أوسلو التي شكلت في مضمونها وتداعياتها أخطر مشروع لتصفية القضية الفلسطينية، إذ لم تقل في أخطارها عن وعد بلفور، فإذا كان الوعد أعطى من لا يملك إلى من لا يستحق، جاءت اتفاقيات أوسلو لتعطي من يملك لمن لا يستحق ...

خلاصةً: كان من المقدر أن تنجز الانتفاضة غير المسبوقة منذ نكبة عام 1948، معظم أهدافها متمثلة بشكل رئيس في دحر الاحتلال، وحق تقرير المصير إلى جانب أهداف عديدة أخرى، مثل تفكيك المستوطنات، وتقوية الاقتصاد الفلسطيني تمهيداً لفك تبعيته للاقتصاد الإسرائيلي وتحرير الأسرى الفلسطينيين، وذلك بعد أن ضاق العدو ذرعاً بها بعد أن عبر رابين عن يأسه قائلاً: "فليبلغ غزة البحر"، وبعد أن فشلت كافة إجراءاته القمعية في وقفها، وأهمها سياسة تكسير العظام، لكن النهج السياسي لقيادة المنظمة ممثلاً بالتنازلات سالفة الذكر، حال دون تحقيق هذه الأهداف، وأدى إلى إجهاضها .