تحية للجبهة الشعبية في ذكرى الميلاد الـ 54

حجم الخط

في الذكرى الرابعة والخمسين للانطلاقة، أستحضر الرواد – ولن أقول أتذكر، لأنهم مقيمون في العقل والروح – الذين حملوا الأفكار ونقلوها للواقع، بالنضال السياسي والكفاح الشعبي والعنف الثوري المنظم. لأولئك الذين انطلقوا بالفكرة القومية من جمعية العروة الوثقى مروراً بحركة القوميين العرب وشباب الثأر وأبطال العودة وصولاً للجبهة الشعبية، التي أُعلن عن تأسيها في مثل هذه اليوم بإطار سياسي وكفاحي واحد وموحد مع الرفاق في جبهة التحرير الفلسطينية بقيادة القائد الكبير الشهيد "أحمد جبريل"، وعدد من الضباط الوحدويين الناصريين. وبكل أسف ومرارة تعثرت تلك الخطوة الوحدوية في الأشهر الأولى للانطلاقة، ليتم الطلاق بين الطرفين، لنشهد الإعلان عن الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين – القيادة العامة، الامتداد التاريخي لتجربة جبهة التحرير الفلسطينية، مع بقاء واستمرار الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين بقيادة المؤسس والقائد التاريخي لحركة القوميين العرب، الحكيم، الشهيد " جورج حبش ".

مدخل

رغم أهمية الإعلان عن تأسيس الجبهة الشعبية، كمنظمة سياسية – كفاحية، مُقاتلة، فإنها مناسبة للإضاءة مجدداً على استمرارية النهج الذي بدأته الحركة. وهنا نستحضر، الشهيد الأول للفرع الفلسطيني بحركة القوميين العرب – شباب الثأر " خالد أبو عيشة " الذي ارتقى للعلا - وهو في مهمة استطلاع ومسح لمناطق الجليل الأعلى - بعد اشتباك مع دورية عسكرية للمحتلين الصهاينة يوم 2/11/1964 في منطقة "أدمث" على الحدود اللبنانية الفلسطينية. ولاستكمال الاستحضار للمحطات الكفاحية السابقة للإعلان، فإن الفرع الفلسطيني بالحركة ومن خلال " منظمة أبطال العودة" مارس العمليات الاستطلاعية والقتالية داخل فلسطين المحتلة، وهذا ما تأكد عندما اصطدمت مجموعة من المقاتلين مؤلفة من الفدائيين محمد اليماني – شقيق القائدين الشهيدين: أحمد وماهر اليماني-، رفيق عساف، سعيد العبد سعيد، وسكران سكران، كانت متوجهة للوطن المحتل لتنفيذ المهام المُكلفة بها، مع كمين لجيش الاحتلال، حيث دارت اشتباكات عنيفة يوم 21 /10/1966 بالقرب من بلدة المالكية، واستشهد نتيجتها، محمد اليماني ورفيق عساف وسعيد العبد سعيد، وجرح المناضل سكران سكران ووقع في الأسر.

وفي هذه المقالة – التحية، التي لا يمكن أن تتسع لذكر أسماء القادة والكوادر المؤسسة الذين قدموا الدم والروح، أو من غيبتهم زنازين التعذيب، الشهداء/ الأحياء، الذين يمارسون نضالهم السري بأقسى ظروف العمل التي تراقبها وتتابعها قوات الاحتلال الأمنية والاستخبارية، وعناصر ومخبري "التنسيق الأمني". فإن الواجب يتطلب أن نوجه تحيات الفخر والاعتزاز بالشهداء، منارات الدرب نحو الوطن المُحرر والسيّد "جورج حبش، وديع حداد، شادية أبو غزالة، غسان كنفاني ، باسل الكبيسي، فايز قدورة، فايز جابر، جيفارا غزة، مُظفر _ شهيد العملية الفدائية التي حملت اسم " غسان كنفاني" داخل سينما "حين" في مستعمرة "تل أبيب" في ذكرى الانطلاقة السابعة للجبهة عام 1974 _، غسان، عدي و... الآلاف". ولأبطال الصمود في زنازين القهر "أحمد سعدات، وليد دقة، كميل أبو حنيش، عاهد أبو غلمي، مجدي الريماوي، حمدي القرعان، باسل الأسمر، سامر العربيد، وليد حناتشة، قسام البرغوثي، بشير الخيري، والشهيد – الأسطورة، في التحدي، والصلابة حتى الشهادة "إبراهيم الراعي"، والآلاف من المناضلين- المناضلات الذين عرفوا المعتقلات الصهيونية طوال العقود الماضية.

الجبهة، تنظيم عصي على الشطب والتصفية

اليوم، مع مرور أكثر من خمسة عقود، ومع مسيرة حافلة بالإنجازات وآلاف الشهداء والجرحى والأسرى، يتأكد حضور الجبهة الشعبية، السياسي والكفاحي، كواحدة من أبرز القوى الرئيسية والأساسية في ميدان النضال الوطني التحرري الفلسطيني، والقومي على امتداد الوطن العربي، وداخل حركة التحرر التقدمية الأممية. هذا الحضور الواضح عرفناه في الإسهامات الفكرية / النظرية، والتمدد التنظيمي/ الجماهيري الواسع، والالتزام/ الانضباط الحزبي الداخلي، الديمقراطي في تجلياته المتعددة، والأهم، العنف الثوري المنظم، الذي التزمت فيه الجبهة منذ بيانها الأول الذي أفرد فقرة خاصة لهذا الشكل من أدوات مقاومة الإمبريالية والصهيونية، بـ "السلاح الذي أثبت التاريخ أنه أفعل الأسلحة لسحق كافة أشكال العدوان الاستعماري ولإعطاء المبادرة للجماهير الشعبية حتى تصوغ مستقبلها وفق إرادتها ومصالحها. هذا السلاح الوحيد الذي بقي للجماهير حتى تعيد التاريخ ومجراه الحقيقي وحتى تستنزف إمكانات أعدائها وتهزمهم على المدى الطويل، سلاح العنف الثوري في مجابهة العنف الصهيوني والرجعي". وتشهد ميادين الاشتباك مع الغزاة المحتلين داخل الوطن المحتل، على المحطات الكفاحية النوعية في مسيرة الجبهة. وهنا، تبرز تجربتها في قطاع غزة المحتل بقيادة القائد الشهيد "محمد محمود الأسود - جيفارا غزة " كواحدة من أهم التجارب النضالية الهامة، ليس في مسيرة الجبهة، فقط، بل في النضال الوطني الفلسطيني المعاصر. كما أن الشعار الشهير التي أطلقته الجبهة "وراء العدو في كل مكان" بقيادة القائد الثوري الاستثنائي، الشهيد المؤسس "وديع حداد"، جاء تنفيذه على الأرض، بعمليات "خطف الطائرات" وملاحقة وتصفية عناصر الاستخبارات الصهيونية والإمبريالية. وما زالت الذاكرة الوطنية، تتوهج، مع كل مناسبة وموقف، يعيد إحياء البطولات في عملية "مطار اللد" يوم 30 أيار / مايو 1972 التي نفذها الفدائي الأممي كوزو أوكاموتو ورفاقه، وعملية "مطار عنتيبي" بتاريخ 27 حزيران / يونيو 1976 بقيادة الحاج فايز جابر ورفاقه، والعمليات المتكررة لاختطاف الطائرات. وتأتي العملية البطولية المُتفردة في مسيرة الجبهة والحركة الوطنية، بإعدام المجرم "رحبعام زئيفي" داخل أحد فنادق مدينة القدس المحتلة يوم 17 تشرين الأول / أكتوبر 2001 كرد مباشر وسريع على اغتيال جيش الغزاة المحتلين للأمين العام للجبهة القائد الشهيد "أبو علي مصطفى" في 27 / 8 / 2001، لتؤكد مجدداً على قدرة التنظيم الفائقة في تنفيذ هذه الضربة الموجعة للعدو في ظروف القمع والملاحقة التي يتعرض لها أعضاء التنظيم وأنصاره. وقد أثبتت الجبهة – وما زالت للآن – أنها عصية على الكسر والاقتلاع، لأنها، وببساطة شديدة، مغروسة في أعماق تربة الوطن، وفي عقل وضمير أبناء الشعب والأمة.

استلهام الدروس من أجل التطوير

في هذه المناسبة الوطنية الكفاحية، وفي أجواء الاحتفاء بتأسيس الجبهة، فإن الأمانة الوطنية في الحرص على هذا التنظيم الكفاحي البارز، تتطلب بجانب الحديث عن الإنجازات والانتصارات، التوقف أمام العثرات والإخفاقات، وهذا يتطلب تحويل الحدث/ المناسبة، إلى ورشات حوار داخلية/حزبية، وشعبية/نخبوية، لمناقشة:

- مواقف الجبهة الأساسية، والتي أصبحت "مُلتبسة وحمالة أوجه" عند الكثيرين، خاصة، في اللحظة الراهنة، قضية "الانقسام – أو الفرز والاصطفاف، والوحدة الوطنية"، على ضوء نتائج اتفاق أوسلو وتطبيقاته الكارثية على الأرض.

- الحالة الشعبية، خاصة، الشبابية، في حراكها الثوري في داخل الوطن المحتل وخارجه، من أجل توفير الحماية لها، وتشكيل مظلة أمان لمناضليها، في مواجهة قمع المحتل وعسف السلطة.

- تطوير الاشتباك مع قوات وحواجز الجيش المحتل، والعمل على تطوير وتعزيز النضالات الوطنية الشعبية في النقاط الساخنة "جبل أبو صبيح - بيتا، أحياء وميادين مدينة القدس المحتلة، وباحات المسجد الأقصى وبواباته"، وداخل الوطن المحتل منذ عام 1948 "اللد، الرملة، حيفا، يافا، مجد الكروم، والناصرة وعشرات القرى والبلدات".

- الوضع الداخلي في الجبهة، وإعادة تنشيط الحياة الفكرية والمبادرات القاعدية والكادرية "دع ألف زهرة تتفتح" بعيداً عن البيروقراطية والتكلس، ومن أجل ضخ دماء جديدة، ملتزمة ومُجربة بالمهام الثورية. ويبدو أن الاستعدادات لعقد المؤتمر الوطني الثامن في العام القادم، خطوة صحيحة في الاتجاه الصحيح، خاصة، بعد مرور ثماني سنوات على المؤتمر السابع الذي انعقد أواخر عام 2013.

- مناقشة دور الجبهة في التجارب التنسيقية – التحالفية مع أحزاب وقوى التحرر في الوطن العربي، بما لها من أهمية تاريخية تفرضها وحدة أبناء الأمة في مواجهة جبهة الأعداء: الإمبريالية والصهيونية والرجعية، خاصة، مع اندفاع بعض النظام العربي الرسمي فيما هو أبعد من جريمة "التطبيع" وصولاً للتحالف، بل الاندماج الكلي مع العدو الصهيوأمريكي. لهذا فإن إعادة العمل على تطوير وتعزيز إطارات العمل العربي الشعبي المشترك، وفي طبعتها الراهنة "الجبهة العربية التقدمية" تُصبح مهمة وطنية وقومية عاجلة.

خاتمة

سأقتبس من بيان الجبهة التأسيسي، خاتمته، لأُنهي بها هذا المقالة – التحية:

أيها الفلاحون فوق الأرض الملتهبة: أيها الفقراء الصامدون في مدننا وقرانا في معسكرات البؤس، لا طريق أمامكم غير المقاومة ولا اختيار، ليس هناك شعار نحمله ونردده بعد اليوم سوى المقاومة المسلحة، وليس هناك حياة لنا على أرضنا إلا من أجل الكفاح الشعبي المسلح وفي خدمة أهدافه وقتاله اليومي.