شكرا أبو مازن.. لكن دع الأمر لغيرك..

حجم الخط
الرسالة التي بعث بها الرئيس أبو مازن إلى رئيس حكومة إسرائيل بنيامين نتنياهو، جاءت هزيلة ودون معنى أو جدوى، وفوق كل ذلك فهي رسالة مهينة بحق الفلسطينيين وتضحياتهم على مرّ العقود الماضية. في رسالته شاء الرئيس الفلسطيني أن يذكّر إسرائيل بسلسلة الاتفاقات والتفاهمات التي جرت معها، طوال عقدين، من اتفاق أوسلو إلى واي ريفر وبروتوكول الخليل واتفاق شرم الشيخ، ثم محادثات "كمب ديفيد"، ومبادرة السلام العربية وخطة "خريطة الطريق" ومحادثات أنابوليس، ثم المحادثات مع حكومة نتنياهو، لكن المشكلة هنا أن الطرف الإسرائيلي يتذكّر كل ذلك، في حين أن الطرف الفلسطيني المعني لم يستنتج العبر المناسبة، ولم يضع حداً لهذا الاستهتار الإسرائيلي بعملية التسوية في الوقت المناسب، في ارتهانه لعملية المفاوضات، وفي عدم شقّه خيارات سياسية أخرى بديلة. مفهوم أن الطرف الفلسطيني لا يستطيع أن يطرح في مراسلات كهذه حقوقه الكاملة بأرضه، لكن حتى من زاوية التفكير في التسوية فمن غير المفهوم منح تقديمات مسبقة ومجانية. هكذا فقد تضمّنت الرسالة التنازل مسبقاً وبشكل رسمي عن القرارات الدولية 181 و194 و273 . فالقرار 181 (1947) تضمن إقامة دولة للفلسطينيين في 43 في المئة من أرضهم التاريخية، واعتبر القدس منطقة خاضعة لولاية دولية مع اتحاد جمركي بين الدولتين الفلسطينية والإسرائيلية، في حين أن الرسالة حدّدت مساحة للدولة الفلسطينية اقل بكثير من التي تضمنها القرار الدولي، بنصّها على إقامة دولة في حدود 22 في المئة من أرض فلسطين، وحتى هذه ثمة قبول بالتفاوض عليها في إطار التبادلية! وبالنسبة للقرار 194 (1948) فهو يتضمّن وجوب عودة اللاجئين إلى ديارهم وممتلكاتهم التي شردوا منها والتعويض عليهم وعلى من لا يرغب في العودة، في حين رهنت الرسالة كل ذلك بـ"حلّ عادل ومتفق عليه"، أي بموافقة إسرائيل و"كرمها"! أما القرار 273 (1949) فقد اعترفت فيه الأمم المتحدة بإسرائيل شريطة قيامها بتنفيذ القرارين السابقين وهي الدولة الوحيدة التي تم الاعتراف فيها ضمن شروط معينة. هكذا تكون القيادة الفلسطينية خفّضت سقفها إلى أقل مما يطلبه المجتمع الدولي، وهذا تطوّر خطير، عدا عن أنه لايفيد في استجداء إسرائيل، لأن هذه لا تريد أقل من استسلام الفلسطينيين، وقبولهم الرواية التاريخية خاصّتها. أيضاً، يخاطب أبو مازن نتنياهو قائلا: "آمل تفهّمك بأن استمرار بناء الاستيطان ينزع ثقة الفلسطينيين بالتزامك بتحقيق حلّ الدولتين. المنطق بسيط: إذا كنت تؤيد إقامة دولة فلسطينية: فكيف تبني على أراضيها؟!" والواقع فإن هذا السؤال الساذج تأخّر كثيراً، وبقدر عقدين من عمر الشعب الفلسطيني وتضحياته، وهو سؤال ينبغي إحالته إلى أبومازن الذي كان احد مهندسي اتفاق أوسلو، الذي تجاهل قضية الاستيطان وأجّل البتّ فيها، بين أمور أخرى لا تقلّ خطورة، ضمنها عدم تعريف إسرائيل كدولة احتلال وعدم تعريف الضفة والقطاع باعتبارها أرضاً محتلة وعدم تحديد ماهية الحل النهائي المقصود. اللافت أن الرئيس، وهو ليس رئيسا للسلطة فقط، بل هو رئيس لمنظمة التحرير، ولحركة "فتح"، ختم رسالته مخاطباً نتنياهو بالقول: "قبل عشرين عاما دخلنا في اتفاق تعاقدي وبرعاية دولية لنقل الشعب الفلسطيني من الاحتلال إلى الاستقلال، والآن ونتيجة لسياسات الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة، فإن السلطة الفلسطينية لم يعد لها أي سلطة. وأصبحت دون ولاية حقيقية في المجالات السياسية والاقتصادية والجغرافية والأمنية، أي أن السلطة فقدت مبرّر وجودها". وهو كلام ينبغي مصارحة الفلسطينيين به واستنتاج العبر المناسبة منه، والبحث عن خيارات اخرى بديلة. ما كان للقيادات الفلسطينية أن تسير في هذا الخطّ، الذي أضعف مبنى ومعنى قضية فلسطين، وجمّدها، وضيّع منجزاتها، لولا تصرّفها بصفتها نظاماً مثل باقي الأنظمة العربية، التي لا تولي أهمية لرأي شعبها، ولا لحقوقه وكرامته. فالقيادة الفلسطينية تحتكر السيطرة على المجال الوطني، فهي تملك أدوات السيطرة العسكرية والموارد المالية والعلاقات الدولية والإقليمية، وهي فوق ذلك تستمد قوتها من ضعف المجتمع المدني، لا سيما في ظل توزّع الفلسطينيين وخضوعهم لأنظمة متعددة ومتباينة، لاسيما أن هذه السلطة لا تستمد مواردها من شعبها، وإنما ثمة قطاع واسع من شعبها يعتمد عليها في سلك التوظيف والتفريغ، ما يخلق طبقة قوية موالية لواقع السلطة وتوجهاتها. مع ذلك بإمكان القيادة الفلسطينية أن تغيّر الطريق، وأن تبقي شعبها في دائرة الأمل، فهذا لا يحتاج إلى معجزات بقدر ما يحتاج إلى إدراك الأولويات، والبحث عن معادلات سياسية جديدة مغايرة، وإعادة تأهيل البنى والكيانات الوطنية، التي باتت متكيّفة مع الوضع القائم. وإذا كانت إسرائيل تصارع على الرموز والرواية التاريخية وعلى كامل أرض فلسطين فإن الفلسطينيين هم أولى بإعادة التطابق بين أرضهم وقضيتهم ومشروع التحرر الوطني خاصتهم، فهذا ما يعزّز وحدتهم وهويتهم، ويشحن طاقتهم ويغذي أملهم بالمستقبل؛ لاسيما أن ثورات الربيع العربي، على مشكلاتها ونواقصها، يمكن أن تساهم في ذلك. أبو مازن: شكرا لك. لقد أعطيت ما عندك وزيادة، وأدّيت رسالتك. يبدو أن هذه نهاية الطريق، فمن حقّك بعد كل هذا المشوار وهذا العمر أن ترتاح. نأمل أن تفسح الطريق لغيرك، لكننا نأمل أن تمهّد لهذا الانتقال بحيث يجري بطريقة سليمة، وبأن لايحمّل بأدران المرحلة الماضية من الرجالات الذين تحوم حولهم شبهات الفساد السياسي والمسلكي. هذا أقل ما نأمله منك، احتراما لشعبك وتضحياته، وحتى يبقى ثمة أمل.