معركة الأسرى تشتد وشدُّ الحبال يبدأ..

حجم الخط
معركة الأسرى تشتد، ودائرة المنخرطين فيها تتسع، وتغطية حكومة نتنياهو للتنكيل بالمضربين عن الطعام بلغت منتهاها بتصريح فاشي أطلقه وزير الداخلية، إيلي يشاي، قال فيه جهاراً نهاراً، وبلا خجل أو وجل، وبالحرف: "فليضربوا حتى الموت إذا كانوا يتصورون تلبية مطالبهم من خلال الإضراب عن الطعام"، فيما احتمال استشهاد بعض منهم بات وارداً فعلاً، فحياة ثمانية منهم باتت في دائرة خطر فعلي وحقيقي بعد مرور نحو شهرين على إضرابهم، وبالذات الأسيرين ثائر حلاحلة وبلال ذياب، اللذيْن مضى على إضرابهما 65 يوماً، ناهيك عن أن عدد الأسرى المنقولين إلى مستشفى سجن الرملة وعيادات السجون يزداد يوماً عن يوم، علماً أن هذا المستشفى وتلك العيادات لا تحمل سوى الشكلي من معنى الرعاية الطبية، بل، وكانت في محطات عدة مكاناً للتنكيل بالأسرى حتى الموت، وللتذكير بالتمثيل لا الحصر، ألم تكن عيادة سجن عسقلان مكاناً لسقوط أول شهداء الإضرابات المفتوحة عن الطعام القائد البطل عبد القادر أبو الفحم، في تموز 1970، بعد أن أبى إلا أن يشارك في الإضراب، رغم جراحه ورجاء زملائه، قائلاً: "لا تكونوا أنانيين...لا تأخذوا كل الشرف...أرجوكم أن تعطوني نصيبي منه...الخ"، ورحل بسبب محاولة ممرض العيادة كسْر إضرابه بالقوة من خلال دسِّ "بريبش" التغذية القسرية، (الزوندا)، في فمه وأنفه؟ وألم تكن عيادة سجن نفحة مكاناً لسقوط ثلاثة من شهداء الإضرابات المفتوحة عن الطعام عام 1980، وهم الشهداء القادة الأبطال راسم حلاوة وعلي الجعفري واسحق مراغة، وأيضاً بسبب محاولة ممرض العيادة كسْر إضرابهم بالقوة؟ ثم ألم يكن مستشفى سجن الرملة مكاناً لسقوط عدد من الأسرى المرضى شهداء، منهم، (مثلاً)، الشهيدان المُسِنَّان، محمد أبو هدوان، عام 2004، وجمعة إسماعيل، عام 2008، المعروفان بقصتيهما المأساويتين لكل من دخل هذا المستشفى، بل المقبرة، حيث مكثا فيه عقوداً من المعاناة تكللت بالشهادة؟ بلى، هناك في سجون الاحتلال ثمة إجراءات تنكيل هي بالإجراءات الفاشية أشبه، ترتكب بحق الأسرى المضربين عن الطعام الذين أُجبروا على اللجوء إلى استخدام سلاح "الأمعاء الخاوية" وشعاره الأثير، "نعم لآلام الجوع، ولا لآلام الركوع"، بعد أن سُدَّت في وجوههم كل منافذ تحقيق مطالبهم الإنسانية العادلة بالحوار، بعد أن لم تترك لهم إدارات السجون بإجراءاتها القمعية المبرمجة والمغطاة بسياسة حكومة نتنياهو المستبيحة لكل ما هو فلسطيني، إلا خيار الدخول في الإضراب المفتوح عن الطعام، بوصفه السلاح الأكثر نجاعة لمواجهة ما يتعرضون له من إجراءات قمعٍ وتنكيل، غرضها المس بكرامتهم الوطنية والإنسانية، وسحْب ما حققوه بمعاناتهم وبطولتهم وتضحياتهم المديدة من انجازات ومكتسبات ظنت حكومة نتنياهو بأن ثمة إمكانية لشطبها، لكن هيهات لغطرسة هذه الحكومة بذراعها التنفيذية، "مديرية مصلحة السجون العامة"، أن تنال غرضها، فتصعيد وتيرة القمع بحق الأسرى كان ينطوي بالضرورة على كل عوامل انفجار مرجلهم، بل، ويحمل في جوفه كل عوامل تجاوز الرهان على فرقتهم الناجمة عن انقسامات الحالة الوطنية والتباساتها، ما يجيز القول بأن الأسرى بخطوة الإضراب المفتوح عن الطعام، إنما يكونون قد ضربوا عصفورين بحجر واحد، ودقوا جدران خزانين في الوقت ذاته. عليه، هنا ثمة مواجهة قاسية بين إرادتين، حيث يواجهُ جنود وقادة هذه المعركة الجديدة الفاصلة للأسرى غطرسة سياسية غير مسبوقة تنتهجها حكومة نتنياهو، غطرسة فضحها التصريح الفاشي آنف الذكر لوزير الداخلية فيها، هذا علماً أن هذا الفاشي هو من يوجه "مديرية مصلحة السجون العامة" المناط بها كذراع تنفيذية تابعة لوزارته التعامل المباشر مع الأسرى، ما يرجِّح احتمال إطالة أمد هذه المعركة، ويفسِّر ما قامت به "مديرية مصلحة السجون العامة" حتى الآن من إجراءات تنكيل بالأسرى المضربين، ويشير إلى أنه سيسبق تحقيق الأساسي من مطالبهم الإنسانية العادلة، عمليات تسويف ومماطلة وتلاعب، لكن إصرار الأسرى، بهذا العدد الواسع، على مواصلة المعركة حتى النهاية، سيجبر ضباط "مديرية مصلحة السجون العامة"، ومن خلفهم حكومة نتنياهو، على محاورة قادة الأسرى، ومفهوم أن يبدأوا حوارهم، (كالعادة)، بمحاولات التلاعب والسعي إلى تقليص إنجازات الإضراب ما أمكن، عبر الدخول في محطة من شد الحبال، ها هي قد بدأت، إذ ثمة تلميح إلى استعداد "مديرية مصلحة السجون العامة" قبول تجميع الأسرى المعزولين انفرادياً، وعددهم 19 أسيراً في قسمٍ واحد، فيما يطالب الأسرى بالإنهاء التام والكامل لعزلهم، بل، وثمة تلميح إلى استعداد يقضي بتمكين أسرى غزة من زيارة ذويهم عبر آلية "الفيديو كونفرنس"، بينما يطالب الأسرى بالسماح لهم ولبقية الأسرى المحرومين من زيارة ذويهم بالزيارة المباشرة، ما يعني أن هذه التلميحات هي إلى محاولة جس النبض أقرب، خاصة وأن مطلبي إنهاء العزل الانفرادي والحرمان من زيارة الأهل، إضافة إلى وقفِ إجراءات "قانون شاليط" القاضي بسحبِ حق الأسرى،( بل إنجازهم المُنتَزَع بالنضال)، في التعليم الثانوي والجامعي وتلقي الصحف والمجلات ومشاهدة جميع محطات التلفزة و...الخ هي المطالب الأساسية، (مطالب الحد الأدنى)، التي بتلبيتها يمكن للأسرى التفكير في تعليق إضرابهم عن الطعام. على أية حال، بإقدامهم على خطوة الإضراب المفتوح عن الطعام منذ 17 نيسان الماضي، يبرهن الأسرى الفلسطينيون، (مرة أخرى)، على أن صفحتهم، (بعد صفحة الشهداء)، هي الصفحة الأكثر إشراقا في سفر النضال الوطني الفلسطيني، وعلى أن تجربتهم النضالية المديدة، بطولة ومعاناة، هي فعلاً بالملحمة الإنسانية الأسطورية أشبه، فقد نزف في خضمها أزْيَد من ثلاثة أرباع مليون من شباب وشابات فلسطين طوعاً، وعن طيب خاطر، وعلى مدار عقود، نبضا حياتيا هائلا، سال مدراراً في ردهات عتمة السجون بدلَ بذله في التعليم والتعلم في المدرسة والجامعة، وفي العمل المنتج في المزرعة والمصنع والورشة، وفي الحميم من علاقات الأُبوة والأُمومة والزوجية والأُخوة والصداقة والزمالة، ذلك لا لتبقى قضية شعبهم الوطنية العادلة وتنتصر وحسب، بل، ومساهمة كبيرة منهم، وبالتالي من شعبهم، في الدفاع عن قيم الحرية والتحرر الإنسانية السامية أيضا، ففي جوف هذه التجربة النضالية الوطنية البطولية بامتياز، والإنسانية بلا منازع، ترقد حالات لا تحصى من صور المعاناة والبطولة الإنسانية الحسية الفريدة والنادرة، يجيز غناها واستطالتها وثراءها وتنوعها وصمود أبطالها، جماعة وأفراداً، اعتبارها من بين أعظم، (وربما أعظم)، مساهمات حركات التحرر العالمية في الدفاع عن الإنسان وحريته وحقوقه في العصر الحديث، ما يعني أن هنالك على كل فلسطيني وفلسطينية، بل، وعلى كل إنسان حر في العالم، واجب المساهمة، بما له من طاقة وقدرة على الإبداع، في نصرة هؤلاء الأسرى في معركتهم التي لم يختاروها، بل فُرضت عليهم، ولم يدخلوها طلباً للموت كما يريد ويتمنى صاحب التصريح الفاشي إيلي يشاي، بل، طلباً لاستعادة مكتسبات إنسانية بسيطة وعادلة، انتزعها من سبقهم إلى سجون الاحتلال ببطولة ومعاناة قل نظيرهما، وهيهات أن يكون بمقدورهم، أو بمقدور من يأتي إلى السجن من بعدهم، التسليم بتجريدهم منها، فهذا دونه خرط القتاد.